ثمة بشر كثيرون لا يبتغون من هذه الحياة سوى سترة الحال والعافية.. يعيشون في حالهم جنب الحيط.. لا علاقة لهم بالسياسة ولا حتى أحوال الطقس.. ورغم ذلك يجدون أنفسهم أحياناً متورطين في لعبة الكبار.. ويقاسون كثيراً في الخروج عن دائرتهم الجهنمية التي لا ترحم !! السيناريست والمخرج المصري (رضوان الكاشف) التقط هذه المعاني ووظفها في آخر أفلامه قبل رحيله المباغت.. وكان فيلم(الساحر) بمثابة صرخة في وجه الظلم.. ظلم الكبار للصغار.. سطوة الناس الفوق على الناس التحت.. قسوة الأغنياء على الفقراء والنافذين على البسطاء!! وشخصية (الساحر) التي جسدها في الفيلم الفنان (محمود عبد العزيز) تعكس الى أي حد هناك في هذه الحياة أناس طيبون ووديعون ومسالمون.. إنهم يعيشون رزق اليوم باليوم ومع ذلك يحاولون الضحك في وجه الآحزان ومغالبة الأوقات العصيبة بكثير من الصبر.. لذلك لم يكن غريباً أن تكون مهنة بطل الفيلم هي مجرد (حاوي) بصياغته التراثية التي لا تتجاوز مربع الإتيان بحركات خفيفة وماهرة على شاكلة إخراج العصافير من تحت القبعة والثعابين من الصندوق العجيب.. محاولة للرقص على حبال الوقت من أجل منع السقوط من قائمة الأحياء المكتظة.. مغامرة بريئة لحصد أكبر قدر من الدهشة الممكنة مقابل بعض الملاليم التي يتصدق بها (من يملك)!! لكن (من يملك) لا يريد من الساحر أن يمتعه ويبهجه فحسب وإنما يطالبه أيضاً بالعمل على إعادة ذاكرته المفقودة بسبب كبره في السن ومغامرات المجون وشره امتلاك الثروة.. من يملك يحمل الساحر مسؤولية استعادة ذاكرته ويضعه أمام خياري (العصا والجزرة) !! والساحر الذي لا يملك سوى (العصا) يفعل المستحيل من أجل ذلك الثري المخرف.. وهو يدرك تماماً أنه لا يملك عصا سحرية، وإنما مجرد لسان خفيف الدم وأيادي رشيقة وجسد يجيد الرقص.. وفي غمرة محاولات الساحر المضنية من أجل ذاكرة (الباشا) كانت ابنته الوحيدة تدفع ثمن دخول أبيها الفقير الى القصر.. حيث ينجح حفيد الباشا في ايقاعها بحباله ليهشم كبرياء الساحر وسعادة أسرته الصغيرة، التي كانت آمنة مطمئنة في حالها الى أن أوقعهم حظهم العاثر في تجربة الاقتراب من المناطق الوعرة والخطرة !! بنت الساحر لم تكن شاطرة مثل أبيها.. فحياة الفقر جعلتها تنبهر بعالم الأثرياء.. فأصابتها الصدمة ووجدت نفسها أسيرة ابن الباشا.. وحين اكتشف الساحر فداحة ثمن دخوله الى القصر كاد أن يفقد عقله ويسقط من فرط حزنه وألمه.. فهو يدرك تماماً أن بنته ليست ( سندريلا) الفقيرة التي يتزوجها الأمير.. ويعلم أن تلك القصص الخيالية لا مكان لها في الواقع ولايمكن أن تتكرر.. كما يعرف (الحاوي) أن (الكبار) لا يقترنون بالصغار علناً وأن حدودهم هي خدمتهم وإسعادهم وإبهاجهم مهما كان الثمن غالياً وكبيراً . هرب الساحر بجلده من الباشا وحفيده وحاشيته.. ترك كل شيء وراءه .. لم تفارق عيناه ابنته التي يحبها ويرى فيها انتصاراً على تحديات الحياة وصعوبات العيش.. لا يريد فلوس الباشا ولا خيراته.. يريد أن ينجو بنفسه من الكوارث التي يجلبها الكبار والإذلال الذي تسببه أموالهم التي يحاولون بها شراء البشر !! فيلم الساحر يعد من الأفلام المهمة في تاريخ السينما المصرية لأنه أسقط القناع عن الفجوة الاجتماعية الواسعة بين الأثرياء والفقراء.. وسلط الضوء على الأحياء العشوائية والمهمشة.. ونبه الى خطورة انفجار هؤلاء المسحوقين.. ولذلك اعتبره النقاد ضمن المجموعة السينمائية المؤثرة التي نجحت في تحريض الشارع المصري وإشعاله لثورته الأخيرة !! إن الفن مؤهل بامتياز لتفجير الثورات لأنه يخاطب في الناس ضميرهم الحي، ويحرضهم على انتزاع حقوقهم المسلوبة.. ولأنه المرآة التي يرون فيها بوضوح وجوههم وذواتهم وواقعهم.. ويكتشفون من خلالها حجم الخلل في موازين العدالة.. والكرامة التي تمنح بالقطارة وفقاً للوضعية المجتمعية.. والحرية التي تصادر في وضح النهار!!.. لا شفاعة ل (ساحر) مسحوق يتفانى لإضحاك الآخرين(الميسورين والنافذين) في أن يعيش حراً كريماً.. أو يحلم باستعادة كبريائه المسروق في زمن لا يساوي بين البشر!! ماوراء اللقطة : منذ يومين حين شاهدت إعادة لفيلم ( الساحر ) في إحدى الفضائيات تذكرت مؤلفه ومخرجه (رضوان الكاشف ) الذي سبق وأن جمعتني به بعض الأمكنة كان آخرها سلطنة عمان إبان مشاركته في مهرجانها السينمائي، حيث أجريت معه حواراً مقتضباً تم بثه في تلفزيون السودان آنذاك.. تذكرت ( رضوان ) بحزن لأنه فارق هذه الحياة قبل أن يرى التغيير السياسي الذي شهدته مصر العزيزة بعد ثورتها الماجدة .. وقبل أن يعرف كيف أن أفلامه القليلة في عددها .. الكبيرة في أهميتها أسهمت في بناء الوعي وحركة التغيير .. كان ذلك كفيلاً بأن يجعله يشعر بفخر أكبر وتفاؤل أكثر ..حيث كنت أشعر أن هذا المبدع يعيش في حياته الأخيرة إحباطاً مضاعفاً ويحمل هماً ثقيلاً ويرنو الى شمس الحرية بلهفة من يخشى الموت .. لك الرحمة أيها النبيل !!