سيادة الرئيس: في هذه المساحة تناولنا الأسبوع الماضي الأسباب الأساسية التي أجهضت قراركم الصائب بسودنة العمل الإنساني، واستعادة القرار الوطني في هذا المجال الحيوي المهم للحفاظ على استقرار واستقلال الوطن. وقدمنا لسيادتكم إن من بين أسباب فشل سودنة العمل الإنساني وغياب المنظمات الأهلية غير الحكومية عن دورها الحيوي بالمؤسسات الرسمية المعنية بالشأن الإنساني، بدءاً من قيام وإنشاء وزارة اتحادية بمسمى وزارة الشؤون الإنسانية، مشيرين إلى أن الوزارات الحكومية المتخصصة تتولى الدور الرسمي في خطط وتنفيذ الخدمات والتنمية للمواطن، فوزارة الصحة الاتحادية والولائية مسئولة عن صرف ميزانية الدولة في خدمة الإنسان، ووزارة الشؤون الاجتماعية معنية بالتنمية الاجتماعية وعون الفئات الضعيفة في المجتمع ومثلها وزارة التعليم وغيرها من الوزارات، مما يؤكد أن قيام وزارة حكومية رسمية للشؤون الإنسانية إضافة أعباء مالية وإدارية، كان سيكون دعماً حكومياً راشداً لتنمية المؤسسات الأهلية غير الحكومية، لتقوم بدورها في دعم خطط الدولة باستنهاض المجتمع بالدعم من غير الخزينة العامة. والمؤسسة الثانية والتي أشرنا إليها هي مفوضية العون الإنساني والتي لا توجد مثيلاً لها في كل دول العالم، خاصة الدول الإفريقية والعربية التي تماثلنا في الأوضاع والتي تتحمل فيها إدارات فاعلة ضمن وزارات الرعاية والشؤون الاجتماعية، لتقوم بتطبيق القانون الوطني لتسجيل المنظمات الأهلية، وتطبيق الإجراءات الإدارية وتتولى المؤسسات والأجهزة العدلية والأمنية والمالية متابعة عدم خروج هذه المنظمات الأهلية من الأطر القانونية، هذا التضخم الإداري الحكومي والانتماء الوظيفي لمفوضية العون الإنساني جعلتها تنحرف عن مهامها في تنمية وعون المنظمات الأهلية وتحويلها إلى منظمة حكومية ليست طوعية قابضة تمارس التعسف والقهر بسلطة الدولة في مواجهة تطور المنظمات الأهلية الطوعية. أما السبب الثاني الرئيسي لفشل سودنة العمل الإنساني يكمن في ما أطلقنا عليهم أباطرة المنظمات، فقد برزت وبقوة المنظمات التي يتولى إدارتها ويتسنم مجالس إدارتها بعض من القيادات السياسية الحزبية والنافذين، والتي صنعت المنظمات الأسرية التي في معظم عضويتها تنتمي للأسرة أو القبيلة أو الجهة، فشكلت مخاطر جسمية ليس على مستوى مهنية العمل الإنساني إنما على مستوى العمل الوطني والشفافية، وعدم التمييز، وفي عدد من المحاور من أهمها احتكرت قيادات هذه المنظمات الدعم الحكومي من خلال علاقتها المتينة بالقيادات النافذة، واعتمدت بصورة كاملة على الخزينة العامة في ادعاءاتها، إنها تدافع عن أطروحات الحكومة وتنفذ سياسات الدولة والحزب، ورغم كل ما اكتسبت من هذا الادعاء لم تتقدم خطوة في تمكين نفسها بديلة للمنظمات الأجنبية في مناطق الأزمات كما ترغب الحكومة، أو تتقدم في مواجهة الاتهامات الدولية والإقليمية التي واجهت السودان. فرغم عدالة قضية السودان إلا إن ملكية وحزبية قيادات هذه المنظمات تقدح في مصداقيتها أمام المنظمات الدولية والمؤسسات الأممية، فأضاعوا فرصة خدمة الوطن للمنظمات ذات الأجندة الوطنية، وفي الساحة الداخلية ذات الأسباب التي أفرغت معنى الشفافية والحيادية أطاحت بوحدة السودان في استفتاء الجنوب، وأفشلت المشورة الشعبية كما عجزت عن سودنة النشاط الإنساني في أوساط النازحين بدارفور. إمكانات الدولة التي يحتكرها أباطرة المنظمات مكنت بعضاً منهم من احتكار العون الخارجي وبدعم سياسي، فإحدى هذه المنظمات احتكرت العون الإنساني في دولة شقيقة تعتبر من أكبر الدول المانحة للسودان، وبقرار سياسي لأحد منسوبيها من المتنفذين فأطاحت بقوانين المنظمة الدولية في التعامل مع نظيراتها في الدول الأعضاء في المنظمة، وأضحت كل منظمة وطنية لا تستطيع أن تجلب دعماً إلا بموافقتها مثل هذه المنظمات اكتسبت امتيازاتها في ظل منافسة غير عادلة مع نظيراتها الوطنية التي أجبرت للجلوس على الرصيف ولا تجد فرصة لخدمة الوطن. ساعدت منظمات الأباطرة في إفشال سودنة العمل الإنساني إذ إن إمكاناتها المتاحة من الخزينة العامة، والمسنودة بالقرار التنفيذي ظلت هذه الإمكانات محورها العاصمة والحضر والنشاطات الخارجية، بينما تعتمد الدولة على أن تلعب المنظمات دوراً فاعلاً في مناطق الأزمات، حيث معسكرات النازحين والمتضررين من الحرب في ولايات دارفور، وحيث التوترات السياسية في مناطق جبال النوبة، والنيل الأزرق، وجنوب السودان، حيث تتركز فيها المنظمات الأجنبية والغربية وتزداد الحاجة إلى العون الإنساني والمدني وميدان تحقيق السودنة، فقد انسحب أباطرة المنظمات بعد برامج طارئة لم يتبقَ لها أثر وتركت الساحة لأمثال المنظمة الفرنسية التي أنتجت الأزمة الأخيرة في ولاية جنوب دارفور، وبقيت المنظمات القاعدية في مناطق الأزمة بين عسف الموظفين وقهر الأباطرة كسيحة ومستضعفة. سيادة الرئيس: يظل مشروع سودنة العمل الإنساني موضوعاً وطنياً ملحاً ومسئولية الدولة في التخطيط الاستراتيجي لبناء منظمات ذات مسئولية مجتمعية للدفاع عن استقلال واستقرار الوطن ضرورة قصوى في الظروف التي تمر بها بلادنا، وأن أسباب إجهاض قراركم الصائب يتطلب تدخلاً سيادياً لإعادة هيكلة مؤسسات العمل الإنساني الرسمية والشعبية، وإتاحة العدالة بين المنظمات التي لا تحمل سوى أجندة الوطن.... ونواصل.