من الآراء التي يجدر أن نناقشها دون حرج أو حساسية موقفنا من الغرب، سبق أن كتبت أن حضارة وثقافة العرب والمسلمين لم تبلغ ذروتها في الأندلس والهند والعراق ومصر وغيرها إلا بعد أن تلاقحت مع الثقافات الأخرى واستوعبتها وصعدت بها ومعها الى مراتب عليا تذكرت ذلك عندما انتقدني أحد القراء قائلاً إن مجرد المشاركة في برنامج قناة ال«بي بي سي» لعرض وجهة نظر بلادنا فعل ضار ينبغي أن نتفاداه.يتفرع عن ذلك التساؤل المشروع عن موقفنا من مخلفات الحكم الثنائي مثل كلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم) والمعهد الفني (جامعة السودان) والخدمة المدنية واللغة الإنجليزية وقد أعجبني تصريح للدكتور قطبي المهدي نادى فيه بتشجيع الجمعيات التعاونية لمواجهة غلاء الأسعار فالمعروف أن الحركة التعاونية من مخلفات الاستعمار أيضاً ولها في بريطانيا تاريخ عريق منذ عام 1844 فهي أقدم تأسيساً من حزب العمّال البريطاني ولديها عدة متاجر كبرى يملكها الأعضاء ولديها صيدليات ومصرف ورغم أنها تجارية واجتماعية إلا أن رسالتها الأخرى سياسية سلط عليها ضوء أكثر جراء الأزمة الاقتصادية الدولية الحالية التي برهنت أن الرأسمالية المطلقة (بلا كوابح أو قيود) تفضي إلى الانهيار أدركت بريطانيا ذلك فقامت بتأميم بعض المصارف كما تدخّل الأمريكيون في سير الاقتصاد رسمياً لإنقاذ الشركات فأثبت بذلك عملياً خطأ النظرية التي تدعي أن السوق يصلح نفسه بنفسه والتي تنادي برفع يد الحكومة كلية عن الاقتصاد وعن ضوابط المال والأعمال . صحيح إن الاقتصاد الموجه« Economy» قد أخفق وقبر مع الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية لكن القطاع الخاص غير الموجه قد أخفق أيضاً فهو يهدف لتحقيق الربح بالدرجة الأولى والثانية والثالثة ولا يهمه المجتمع وقد أدهشت السيدة مارجريت تاتشر الساحة السياسية عندما أعلنت (ليس هناك شيء اسمه المجتمع) أي أن التفكير في ما نسميه التكافل لا مجال له في مجتمع يأكل فيه القوي الضعيف .نتذكر أن السعي وراء الربح وحده هو المسؤول عن كارثة مفاعل فوكوشيما في اليابان لأن شركة (تبكو) اختصرت إجراءات كثيرة رغبة منها في تحقيق أعلى الأرباح وحدث شيء مماثل عند تلويث شركة بي بي لخليج المكسيك. بل إن إحدى مجلات البنتاجون نشرت مقالة (سبق أن لخصتها) أكدت أن الكوارث التي أودت بحياة رواد الفضاء كان من أسبابها أن الشركات التي نالت بعض العطاءات استجابة لإعلانات وكالة الفضاء الأمريكية كانت تهدف للربح وحده وليس السلامة التي تكلف كثيراً! وقد كتبت سمية غنوشي ( من مدرسة الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة لندن مقالة مهمة بالجارديان يوم 31 مارس الماضي كررت فيها -بمجرد وقع الحافر على الحافر- ما سبق أن قاله أحد الثوار بصحيفة الأهرام من أن الانتفاضة في مصر وتونس كانت ذات جذور متعددة منها التبعية الاقتصادية للدول الغربية الكبرى والمعروف أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي دفعا مصر لخصخصة كل شيء حكومي حتى إذا كان ذلك يعني إعطاء شركات القطاع الحكومي للقطاع الخاص بمبالغ رمزية نجم عن ذلك تشريد الشركات للعاملين وتزايد البطالة والتذمر ضد الحكومة. وقد أسعدني القرار الذي صدر بالخرطوم قبل أيام بالتراجع عن خصخصة هيئة الإمدادات الطبية وهو يتسق مع إجراءات أخرى تكفل وجود كوابح حكومية صارمة في بعض المواقع كما يتّسق مع اعترافنا بوجود (مجتمع) يهتم بالزكاة وبحق معلوم للسائل والمحروم في مال القادرين. اختتم بالعودة لنداء د. قطبي المهدي الخاص بالتعاونيات، لفتت الحركة التعاونية الأنظار مؤخرًا في بريطانيا حينما مولت فريقاً لكرة القدم أسسه بعض الرافضين لشراء المليونيرات الأجانب للأندية الكبرى - نعلم أن أندية كرة القدم نشأت في أحضان النقابات وبين المواطنين البسطاء والطلاب وكانت ولا تزال من أعمدة التواصل الاجتماعي والتماسك في المجتمعات المحلية برز ذلك عندما أحرز هداف ليفربول (فاولر) هدفاً فخلع قميصه ليرى الكاميرات كلمات تضامن مع أهله العمال المضربين عن العمل .اشترى مليونير نادي مانشستر يونايتد الشهير فأسس محبوه نادي FC-United ومولتهم الحركة التعاونية في مقاومتهم المشروعة فالحركة التعاونية ركيزة في أعمدة كثيرة بالتعليم والعلوم والإدارة والإعلام لا تتناقض مع قيمنا وتقاليدنا بل تتناغم معها إذا كانت المقايسة موضوعية وغير سطحية.