عذراً إن اقحمتكم في شأني الخاص، فهذا اتجاه لا أحبذه وظللت دائماً في كتاباتي أحاول أن أعبر عن الآخرين دونما وصاية.. وأن أخوض في العام لقناعتي بأن الصحفي مهمته تناول قضايا الناس، والتركيز على نشر الوعي بحقوقهم.. لكن هذه المرة أجدني أسيراً لظرف طارئ وخاص جداً، حيث يرقد أبي بالمستشفى أثر علة ألمت به.. وقد كشف لي هذا المصاب أشياء كثيرة من بينها (الضعف الإنساني) أمام مرض الاقربين، خاصة عندما يكونون في حالة حرجة، وكيف أن الإنسان يعاني ويتألم وهو يرقب المشهد دون أن يملك حياله سوى الصبر والدعاء وانتظار رحمة الخالق بالشفاء !! مشاعر تفيض بحزن عميق، والكثير من الترقب الحذر والانتظار المقلق.. والفكرة لا تبارح المخيلة.. تتداعى الذكريات كلما نظرنا في وجوه من يرقدون على الفراش الأبيض... نتمعن في أعينهم .. وحين يغمضونها تداهمنا كل الاحتمالات.. وعندما نلحظ أنفاسهم ونحس بها نتنفس أاوكسجين الأمل.. في قمة الحزن نرسم ابتسامة مفتعلة كي نبعث في أرواحهم دفء الحياة..!! في تلك اللحظات العصيبة نحدث أنفسنا كثيراً ونطلق سراح الأسئلة، ويبدأ منلوج داخلي يدورفي دواخلنا: الغربة الطويلة التي باعدت بيني وأبي لسنوات أشعر الآن بضخامة تكلفتها.. القرب منه كأن سيجعلني أكثر استماعاً لأحاديثه وذكرياته.. خاصة سنوات عمله الطويلة كمعلم للغة الانجليزية، ثم مديراً وموجهاً وغيرها من مواقع تقلدها في الإدارة التعليمية داخل السودان وخارجه.. ثمة شعور ما بأن هناك الكثير من اللحظات الجميلة كان بالإمكان أن أقضيها الى جانبه .... لكن أيضاً أحمد الله إني الى جواره الآن.. ولم أتردد لحظة واحدة في العودة الى الوطن حين عرفت من اخوتي أن وضعه الصحي ليس كما السابق.. كنت حاضراً حين داهمته الأزمة الصحية لأول مرة.. وفي ذاك الصباح توكأ على كتفي ونحن ننقله الى المستشفى.. وبالأمس القريب بدأ وضعه الصحي في الاستقرار.. الطبيب الذي يعرف حجم القلق الذي يسكننا ومثلما حذرنا من خطورة حالته يطمئننا الآن بأنها في تحسن مستمر.. والحمد لله !! لا شيء يمكن أن يعوض فقد من نحبهم، لذلك نخشى جميعنا ( نقطة التحول ).. نتماسك رغم صعوبة الموقف.. نتجاسر في وجه الامتحان الصعب.. نحاول أن لا نظهر ضعفنا وانهيارنا.. نتدثر بمحبة الآخرين من حولنا.. نرد على مكالماتهم الهاتفية التي تسأل عن صحتهم.. نشغل أنفسنا دون جدوى بالتفكير في أشياء لاعلاقة لها بأجواء المستشفى واولائك المرضى في غرف الانعاش والعناية المكثفة.. لكن صورتهم لا تبارح عقولنا وأفئدتنا.. والمشهد الماثل يكاد يخفي غيره.. حيث لا شيء يمكن أن يحول الحزن الى فرح، والألم الى سعادة..!! وحين أشرقت شمس الصباح بعد ليلة عصيبة قضيناها في المستشفى.. تلقيت مكالمة من ابني شهاب.. قال لي: بابا قولي مبروك؟! فقلت له: مبروك.. مبروك لكين عشان شنو ؟! .. فرد شهاب بزعل: معقول يابابا ماعارف.. وقبل أن يكمل قاطعته بالقول: اووه الف مبروك ياشهاب.. اليوم نتيجة امتحان مرحلة الأساس.. معليش حبيبي انت عارف أنا مشغول بجدو ولي كم يوم معاهو في المستشفى.. والله العظيم بقيت ماقادر اركز في اي حاجة.. مبروك .. مبروك حبيبي !! في تلك اللحظة تساقطت دمعات حبيسة من عيني.. لا أعرف أن كانت دموع حزن أم فرح.. عاتبت نفسي كثيراً على ( كسر خاطر) ابني الوحيد شهاب وهو يحمل لي فرحته بالنجاح الباهر .. فرح كان عصياً في غمرة أحزاننا بسبب مرض الوالد.. لكنه الآن يطرق بقوة باب قلوبنا الجريحة.. فما بين ابني وأبي حكاية تطول.. والآن ربما لا قاسم مشترك بينهما من حيث توصيف الحالة.. أب طريح فراش المرض.. وابن يزهو فرحاً بتفوقه في الامتحان .. ويبقى المشترك الأعظم هو الحب والأمل..!! ماوراء اللقطة : بعد أن تلقيت مهاتفة شهاب دخلت مسرعاً الى غرفة أبي في المستشفى.. وجدته كمن يترقب حدثاً مهماً.. سألني قبل أن أقول له اي شيء: شهاب نجح؟! ياإلهي .. كم أنت عظيم ونبيل يا أبي.. في غمرة المرض والألم لم تنس مثلي يوم إعلان النتائج.. وأن حفيدك شهاب من الممتحنين.. قبلته على رأسه وقلت له: نجح.. نجح يا أبوي.. ولأول مرة منذ دخوله للمستشفى رأيت ابي مبتسماً.. ولأول مرة أيضاً أشعر أن أبي عادت اليه عافيته واتفاءل بعودته سالماً الى البيت.. بإذن الله!!