حسناً فعل حزب المؤتمر الشعبي بترشيح الدكتور عبد الله دينق نيال للانتخابات الرئاسية، وذلك فيما يبدو لاعتبار موضوعي هو عامل التقدم في العمر، مع أن العرف السياسي السائد في النظام الرئاسي بخاصة أن يكون رئيس الحزب هو المرشح لرئاسة الجمهورية. وأتمنى أن يحذو حزب الأمة القومي الحذو نفسه، فلا يقدم رئيسه للانتخابات الرئاسية، ذلك بأنه سيكون متقدماً في العمر على المرشحين الآخرين بعقد كامل من الزمان، في بلد معظم سكانه من الشباب، فهي مرحلة من العمر لا تليق بها الهزيمة كنهاية للحياة السياسية، كما حدث للمرشح الجمهوري الطاعن في السن جون ماكين أمام المرشح الديمقراطي الشاب باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية، فقد كاد أن ينزوي في مجلس الشيوخ بعد الأضواء الانتخابية، كما أن المجتمع السياسي كان يبحث بجدية في أهلية نائبه، وهو سارة بالين، في حالة فوزه، وذلك لدى توليها الرئاسة مؤقتاً في حالة عجزه بسبب المرض أو الموت، فالعالم قد تغير وأخذ يدفع بقيادات رئاسية إما شابة أو معتدلة في السن، تكون أكثر تجاوباً مع متغيرات الحياة الزاحمة، خصوصاً أن الغالب على عمر الرئاسة في النظام الرئاسي، هو حوالي نصف عقد من الزمان يقود فيها الرئيس السلطة التنفيذية بكاملها، مما يحتاج إلى جهد مضنٍ. ولا أنادي السيد محمد عثمان الميرغني بشيء، فهو أحكم وأعلم من أن أوجه له أي نداء، وقد أثبت بحق أنه كان منحازاً للثوابت الوطنية بمواقفه الأخيرة، كالرفض القاطع الذي لا يتزعزع ولا يتقلب (للجنائية) لمساسها برمز السيادة الوطنية، وكالامتناع عن المشاركة في مؤتمر جوبا، وما تمخض عنه من مسيرة أو مسيرتين فاشلتين في إحداث الثورة الشعبية على النظام، وذلك باعتبار أن هذا العمل الفطير قد يشكل استقطاباً سياسياً حاداً يضر بالاستقرار السياسي في هذه المرحلة الدقيقة، وهو حريص على الوفاق الوطني الشامل، ثم موقفه من مصير الوحدة بين الشمال والجنوب الذي دل عليه تمسكه بنسبة مئوية عالية من النصاب القانوني للمقترعين من الجنوبيين في الاستفتاء. وأرى أن يتفرغ رئيسا حزب المؤتمر الشعبي وحزب الأمة القومي للعمل الفكري، خصوصاً أنهما يتبنيان قضايا دينية مثيرة للجدل، لا تتفق معها المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، ولا الغالبية الغالبة من القواعد الشعبية، وهذا التفرغ يتيح لهما فرص الحوار الطويل حول هذه القضايا، مما لا يتحمل المسؤولية عنها النشاط الحزبي، حيث تظل فجوة الخلاف الديني قائمة حتى بينهما وبين قواعدهما. وأعيد اليوم الفكرة التي طرحتها بهذا الباب من قبل، وهو أن تؤسس رئاسة الجمهورية بعد الانتخابات، مجلساً للشورى ضيق العضوية، يضم الشيوخ المعروفين في قيادة القوى الحزبية، الذين حال بينهم عامل السن المتقدم من الترشح للانتخابات الرئاسية والولائية وربما التشريعية، وذلك على غرار تجربتنا التاريخية في مجلس الشيوخ، غير أن خلاصات مشورتهم غير ملزمة قانونياً، وإن كان لها وزن عرفي معتبر، وذلك على أن يكون تمثيل هذا المجلس مبنياً قدر المستطاع على نتائج الانتخابات، وألا تستثنى أية قوة سياسية مؤثرة بنفسها أو بوزنها السياسي، ومثل هذا المجلس سيكون مظنة لمستودع الحكمة من هؤلاء الشيوخ، حيث يرفع توصياته لرئاسة الجمهورية للاستعانة بها في اتخاذ القرار حول القضايا القومية الكبرى، كما هو سيحمي هؤلاء الشيوخ أنفسهم من الانزلاق إلى الصراعات الحزبية الحادة التي لا تليق بمكانتهم القومية... وحتى لا تكون قيادته محتكرة للون سياسي سابق يحبذ أن تكون دورية مع دورية انعقاده كل ثلاثة شهور مثلاً. لقد صارت الانتخابات العامة أمراً واقعاً، سواء بالتزام مفوضية الانتخابات القومية بجداولها، أو باستعدادات القوى الحزبية لخوضها، ومن ذلك البدء في ترشيحاتهم الرئاسية، أو مساعيهم لتوحيد انشطاراتهم الحزبية، أما التخوف من مطاعن نزاهتها الديمقراطية فمحسوم بالرقابة الذاتية من كل حزب مشارك فيها، بالحضور الدائم لمندوبيه بسائر مراكز الاقتراع لمراقبة الاقتراع نفسه، ثم للمراقبة اللصيقة لصناديق الاقتراع حتى مرحلة عد الأصوات وإعلان النتائج، وتأتي بعد ذلك مشاركة قوى المجتمع المدني في الشكل المتفق عليه من الرقابة، ثم تأتي من وراء ذلك سائر أشكال الرقابة الخارجية، الإقليمية والدولية. أما التخوف بانفراد المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بالسلطة مرة أخرى، فهو غير مبرر ديمقراطياً، ويمكن تجاوزه بعملية التحالف معهما، سواء قبل الانتخابات أو بعدها، وذلك حرصاً على الوفاء بمستحقات اتفاقية السلام الشامل كأمر واقع نشأت هذه الانتخابات بموجبه، فمثل هذه التحالفات الديمقراطية هو لمصلحة الاستقرار السياسي التي ينبغي أن يقدمها أي حزب على أية مصلحة أخرى، ضماناً لاستمرار الحياة السياسية نفسها، ورأيي أن مثل هذه التحالفات هي التي تنتج حكومة قوية، ومعارضة قوية أيضاً. وأفضل هذه التحالفات هو ما كان لمصلحة عملية السلام، أو لمصلحة الاستقرار السياسي، أو للتقارب حول الثوابت الوطنية، كما دلت عليه الوقائع في الفترة الأخيرة. علينا أن نقدم الممارسة الانتخابية التي تليق ببلدنا وهو في موقع القدوة الصالحة لشعوب المنطقة، ومن جهة أخرى في موضع نظر العالم الينا كقوة ناهضة، علينا بهذه الانتخابات أن نثبت رشادة الحكم وديمقراطية الممارسة، والشرط للنزاهة هو مسؤولية كل طرف مشارك في عملية الانتخابات، وليست مسؤولية طرف واحد، ذلك بأن الرقابة الدائمة اللصيقة على عملية الاقتراع هي المعول عليه لنزاهتها. والله المستعان