لم يعد خوف الآخرين من محاربة الجيش الأميركي التي كان يتمترس وراءها الجندي الأميركي تنفعه في أرض المعركة، فإرادة القتال والهدف النبيل من أجله هي الأقوى ، مهما كان العدو يملك من ترسانات الأسلحة الفتاكة، لهذا ترتفع أعداد المنتحرين داخل صفوف الجيوش المحتلة، نتيجة الهوة الواسعة بين الإعداد التعبوي المبني على الكذب والخداع، وبين الحقيقة على أرض الواقع ، أضف إلى ذلك هناك أمور أخرى لا تقل خطورة عن حالات الانتحار، وربما تفوقها من الناحية الاستراتيجية، وهي حالات انفصام الشخصية والأمراض النفسية نتيجة الحرب، وحبوب الهلوسة التي يتعاطاها عدد ليس بالقليل من الجنود الأميركيين ،حتى وصلت إلى أرقام مرعبة على قلة مايتسرب بهذا الشأن نتيجة التعتيم الإعلامي الذي تمارسه السلطات الرسمية حتى إنهم يضطرون لعقد جلسات سرية في لجان الكونغرس الأميركي عند مناقشة هذه الأمور وبمقارنة بسيطة في هذا الموضوع نجد أن التاريخ يعيد نفسه، وإطلاق تسمية الحرب في العراق بفيتنام أخرى، وعادت ظاهرة الانتحار بين الجنود الأميركيين لتؤرق الإدارة الأميركية، ويعتبر العام 2009 الأسوأ للجيش الأميركي بعد أن شكل أعلى نسبة انتحار منذ ثلاثة عقود بين صفوف الذين خدموا في العراق وأفغانستان، والتي وصلت إلى معدلات قياسية، كما أن خطط إرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان ضاعف المخاوف، الأمر الذي دفع أهالي المنتحرين إلى اتهام إدارة الجيش بعدم الاكتراث بمصائر أبنائهم بعد عودتهم من الحروب، في حين عبرت وزارة الدفاع عن قلقها إزاء تنامي حالات الانتحار في أوساط المجندين في الجيش الأميركي. فالانتحار قضية مذمومة ومعروفة في كل المجتمعات وعبر العصور، ويلجأ إليها الفرد عندما يصل إلى حائط مسدود للاستمرار في الحياة نتيجة ضغط نفسي أو اجتماعي، لكن الانتحار في صفوف الجنود قضية مثيرة للاهتمام، ولاسيما في الجيوش المحترفة مثل أوروبا والولاياتالمتحدة الأميركية بسبب الإعداد النفسي والروحي، والمميزات الاجتماعية التي يتمتع بها أفراد القوات المسلحة، والأموال الطائلة التي تصرف من أجل ذلك، حيث يوضعون وأثناء الحروب أيضاً في جو ترفيهي يقربهم إلى الحياة المدنية الاعتيادية، ولعل ما يلفت الانتباه في هذا المجال هو أن يتحول الانتحار في الجيش الأميركي إلى ظاهرة بدأت تؤرق واضعي الاستراتيجيات في دوائر القرار الأميركي السياسية والعسكرية وحتى بين أجهزة الاستخبارات على مختلف أنواعها ومستوياتها. فقد أظهر تقرير رسمي أميركي مؤخراً أن عدد حالات الانتحار بين صفوف الجنود الأميركيين قد ارتفعت في العام الماضي بشكل لافت وصلت إلى 160 حالة انتحار، معظمها بين أفراد القطعات التي تخدم خارج الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي الأعوام السابقة كانت ظاهرة الانتحار بين الجنود الأميركيين لا تقل كثيراً ، ولاسيما في العراق وأفغانستان، ففي السنوات السابقة إبان إدارة «جورج بوش الابن»و مع بداية الألفية الجديدة، واندفاعته الحمقاء بإرسال جيوشه شرقاً وغطرسته، واعتماده على ترسانة كبيرة في العديد والعتاد في جيوش الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وبذرائع واهية أثبتت الأيام أنها بنيت على خداع وكذب، ساندة في ذلك بعض القادة الأوروبيين الذين ساروا في ركب الجنون البوشي، إلا أن الجنود هم الذين يدفعون ثمن حماقات السياسيين، والإعداد الخاطئ لا بد أن يفضي إلى نتائج خاطئة وأحياناً مدمرة، فقد وعد الجنود الأميركيون بأن الشعب العراقي في انتظارهم وسيستقبلهم بالأرز والورد، وضخت وسائل الدعاية الإعلامية ،ولاسيما التي تتعلق بالإعلام بين صفوف الجنود ملايين الرسائل والاعلانات التي تؤكد أن الجندي الأميركي هو المنقذ للشعوب الأخرى، وحرصت الادارة السياسية ،وعلى رأسها «جورج بوش الابن»، على تكثيف خطاباته الحماسية والمؤكدة لما تبثه الدعاية الاعلامية ،وغلفها بطابع ديني، فتارة حرب صليبية، وتارة أنه جاءه هاتف من السماء يطلب منه غزو العراق بعدما غامر بغزو أفغانستان، إلا أن الواقع بالنسبة للجنود الأميركيين كان على العكس تماماً، فالأرز والورد الذي وعد بها الجنود الأميركيون في العراق كان عبارة عن جهنم فتحت على المحتل وجنوده منذ اليوم الأول لدخول القوات الغازية أرض العراق، ولم تنفع الدعاية الكاذبة في إقامة مباراة كرة قدم مفبركة مع بعض الفتية العراقيين تحت تهديد السلاح وتوزيع الهدايا على الأطفال في محو الوحشية التي تعامل بها الجيش المحتل مع الأهالي، من قتل بشع ومجازر بالعشرات والمئات من الشعب العراقي وفضائح سجن أبو غريب وغيره، إلا أن كل هذا لم يمنع الشعب العراقي من مضاعفة عدد الجنازات من الجنود الأميركيين الذاهبة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وبشكل يومي، فوقع الجندي الأميركي بين فكي كماشة استبسال الشعب العراقي والكذب والخداع السياسي من إدارته، ومن يرجع إلى مذكرات الجنود الأميركيين يتأكد من أن حياتهم تحولت إلى جحيم، فبدأت اضافة لقوافل القتلى جراء ضربات المقاومة العراقية ،قوافل الجنود الأميركيين المنتحرين تزداد يوماً بعد يوم، وبدأ الشعب الأميركي يدرك فداحة الخسارة، وفداحة القرار الشيطاني الذي اتخذته ادارته بشن الحرب، كذلك في أفغانستان وأماكن أخرى وحتى بين صفوف الجنود الأميركيين الذين يقع الخيار على وحداتهم في الذهاب إلى أماكن القتل البعيدة في العراق وأفغانستان وغيرهما. وبالرغم من جميع وسائل الترفيه يحصل عليها الجندي الأميركي، لكن كل هذا ما نفعه عندما يتأكد الجندي الأميركي من أنه يخوض حرباً عبثية، وأنه سيخسر حياته في كل مهمه قتالية يكلف بها في أرض كل شيء فيها مجهول بالنسبة له، حتى الحجر يخالها أشباحاً تلاحقه لتقتص منه على جرائمه التي وصلت في العراق إلى أكثر من مليون مواطن عراقي راحوا ضحية الهمجية العسكرية الأميركية. الجيش الأميركي يعيش الآن تحت ضغط كبير بسبب طول فترات الخدمة، وتكرارها الناتج عن خوضه حربين في آن واحد بالعراق وأفغانستان، وقد نظمت (قاعدة فورت كامبل)، التي شهدت انتحار 14 جندياً في الأشهر الخمسة الأولى من العام الماضي برامج متخصصة للتعريف بمفاهيم الإحباط الحاد والأعراض الأخرى لدى الجنود، لتقديم النصح والمشورة بعد انتحار ثلاثة جنود نهاية أيار مايو 2009. معدلات الانتحار في الجيش الأميركي، التي ارتفعت كثيراً منذ بداية حربي العراق وأفغانستان، عكست الموجة التي كانت سائدة تاريخياً، حيث كان معدل الانتحار في أوساط العسكريين أقل منه بين المدنيين، وشهدت حالات الانتحار بين الجنود منذ العام 2004 ارتفاعاً مضطرداً ، رغم زيادة التدريب وبرامج للوقاية من الانتحار، إضافة لزيادة طاقم الطب النفسي ومحاولات الجيش المختلفة للجم تصاعد هذه الظاهرة، فقد وصل عدد العسكريين الأميركيين المنتحرين في العام 2003 إلى 76 جندياً، بينهم 25 خلال خدمتهم في أفغانستان والعراق، في حين كان عددهم في العام 2004، 67 جندياً بينهم 14 كانوا في هذين البلدين، إضافة إلى انتحار 83 جندياً في العام 2005،كما أن انتحار نحو 140 جندياً خلال العام 2008 يعد الأعلى مقارنة بانتحار 115 جندياً في العام2007 و102في العام 2006 منذ تسجيل الرقم القياسي للانتحار بين الجنودفي العام 1980، وقبل صدور البيان الأخير لوزارة الدفاع الأميركية الذي أفاد بانتحار 160 جندياً من سلاح البر في العام 2009 والذي اعتبره (البنتاغون وزارة الدفاع الأمريكي) رقماً قياسياً.