في هذه المرة أتحدث عن شاعر جهير كبير، من شعراء وادي النيل، ألا وهو الشاعر الكبير المجدد (أمل دنقل).. أحد أبناء مصر الأفذاذ، الذين حملوا راية التجديد في شعرنا العربي مع رصفائه: صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد الفيتوري، وتاج السر الحسن، وجيلي عبد الرحمن، ومحي الدين فارس، وغيرهم، من أبناء وادي النيل الذين حملوا راية الإبداع والحداثة والتجديد.. في أمانة وإخلاص فجاء صوتهم عالياً، يؤكد المستقبل الواحد، وجاء صوتهم الشجي عالياً، فأخذوا ينشرون إبداعهم.. يبشرون بالوحدة ويوقظون المشاعر والقلوب، وكأنما شعارهم قول شاعر العروبة محمود غنيم:- (أبناء يعرب لا حياة لأمة .. بالذكريات بل الحياة مساعِ) (فثبوا إلى الأهداف وثب مغامر .. لا خائفٍ قلباً ولا مرتاعِ) (من عالج الباب العصيّ فلم يلن .. ليديه حطم جانب المصراع) من هذا الجيل كان شاعرنا الكبير (أمل دنقل) الذي رحل عن عالمنا منذ سنوات، وخلف لنا روائع من إبداعه الشعري، آخرها ديوانه الجميل المؤثر (أوراق الغرفة «8»).. والتي يصور فيها اللحظات الأخيرة من حياته في السرير الأبيض.. تلك الغرفة التي لم.. يخرج منها أبداً.. إلا إلى عالم الأبدية والخلود.. بعد أن أسلم الروح خالقها:- وهو يقول فيها.. في العنوان المؤثر الذي اختار له اسم (وجه).. يقول (أمل دنقل):- هل أنا كنت طفلاً..؟ أم الذي كان طفلاً سواي.؟ هل هذه الصورة العائلية لي.؟ كان أبي جالساً.. وأنا واقف تتدلّى يداي.. رفسة من فرسْ تركت في جبيني شجاً.. وعلّمت القلب أن يحترسْ.. أتذكر.. سال دمي أتذكر مات أبي نازفاً.. أتذكر هذا الطريق إلى قبره.. أتذكر أختي الصغيرة.. ذات الربيعين.. لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها المنطمس أو كان الصبي الصغير.. أنا..؟؟ أو ترى كان غيري.. أحدق..؟ لكنَّ تلك الملامح ذات العذوبة.. لا تنتمي الآن لي.. ثم يقول في قصيدته (وجه):- كان يسكن قلبي وأسكن غرفته.. نتقاسم نصف السرير ونصف الرغيف ونصف اللفافة والكتب المستعارة.. هجرت جنته في الصباح.. فمزق شريانه في المساء.. ولكنه بعد يومين مزق صورتها.. واندهش خاض حربين بين جنود المظلات.. ... ولم ينخدش..» وفي هذا الشهر وتخليداً لذكراه.. احتفلت مكتبة الاسكندرية بمناسبة مرور سبعين عاماً على ميلاد شاعرنا الكبير.. ابن جنوب وادي النيل.. أمل دنقل... وقرأ الشعراء من أبداعاته الخالدة قصيدته (مرآة).. والتي يقول في مطلعها:- هل تريد قليلاً من البحر..؟ إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي البحر والمرأة الكاذبة.. هل تريد قليلاً من الخمر..؟ إن الجنوبي يا سيدي يتهيب اثنين قنينة الخمر.. والآلة الحاسبة.. فالجنوبي - يا سيدي - يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنين:- الحقيقة.. والزوجة الغائبة» رحم الله أمل دنقل، فقد كان صوتاً جهيراً متفرداً من أصوات شعراء وادي النيل.