عندما ينعقد مؤتمر روما للأمن الغذائي غداً «الاثنين» سيجد رؤساء الدول الستين الذين يحضرونه مأساة «المعذّبين في الأرض» حاضرة بين أيديهم بكل أبعادها ورائحتها الكريهة وأرقامها المفزعة. أرقام تقول بأن هناك أكثر من مليار من بني البشر يتضوّرون جوعاً، وأن هناك طفلاً يموت بسبب سوء التغذية كل ست ثوان، كما أشار إلى ذلك السيد يعقوب ضيوف في مؤتمره الصحفي يوم الأربعاء الماضي. ومؤتمر السيد ضيوف، المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة العالميّة «الفاو»، كان مؤتمراً فريداً من نوعه، فالرجل قرّر - من هول الكارثة - أن يدخل في إضراب عن الطعام لمدة يوم إشارة منه وتنبيهاً للرأي العام ول «النائمين على العسل» من أهل «العالم الأوّل»، وحتى يعطي الإشارة والتنبيه والمؤتمر الصحفي القوّة اللازمة قرّر أن يعتصم بمقر «الفاو» الرئيسي في روما، داعياً الجميع في كل أنحاء العالم للتضامن معه بالإضراب عن الطعام بقدر ما يستطيعون، وكان أوّل المستجيبين لدعوة التضامن تلك الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي سيبدأ إضرابه اليوم قبل أن يتوجّه لحضور المؤتمر. ضيوف قال للصحفيين: «إنّنا نملك الوسائل الفنيّة والموارد اللازمة لقهر الفقر، ولكنّنا نفتقر إلى «الإرادة السياسيّة».. والإرادة السياسيّة تتأثر بمواقف الرأي العام، ولذا فإنني آمل أن تساعد بادرتي مع مبادرات الآخرين في رفع الوعي وتكثيف ضغوط الرأي العام على القادرين على تغيير هذه الأوضاع المزرية وعلى تحقيق الهدف المتمثِّل في خفض عدد الذين يعانون الجوع وعدد الأطفال الذين يموتون بسبب سوء التغذية بمعدل طفل في كل ست ثوانٍ، أي بمعدل عشرة أطفال في الدقيقة الواحدة». لكن ممّا يجعل الصورة المحيطة بالمؤتمر الحزين أكثر قتامة والمناسبة أشد مأساوية هو ما تناقلته الأنباء بأن «القادرين» الذين تحدّث عنهم ضيوف لن يكونوا بين «ضيوف شرف المؤتمر». والقادرون هؤلاء هم رؤساء الدول الغنيّة الثماني، المعروفة اختصاراً ب «جي- 8»، فيما عدا رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني، صاحب مبادرة «لاكويلار حول الأمن الغذائي» الذي تستضيف بلاده المؤتمر. ففي تلك المبادرة التي انعقدت في إيطاليا أيضاً في الفترة من 8 إلى 10 يوليو الماضي، تعهد أولئك «القادرون» في العالم الأوّل بمواجهة التحديات المتمثِّلة في الأزمة الاقتصاديّة والفقر وتغيُّرات المناخ، لكن، كالعادة لم يلتزموا بشئ تجاه فقراء العالم وجائعيه، وربما انصبّ جهدهم حتى الآن في معالجة الأزمة التي تضرب اقتصاديّاتهم، ذلك بالرغم من الوثائق العديدة التي اعتمدها حضور المبادرة ومن بينها «البيان المشترك حول الأمن الغذائي العالمي» والإعلان عن جمع (20) مليار دولار أمريكي على مدى ثلاث سنوات للأمن الغذائي ولدعم التنمية الريفيّة في الدول الفقيرة. وإذا ما تجاوزنا مآسي الماضي الاستعماري لمعظم هذه الدول التي تعرف اليوم ب «الدول الغنيّة» أو «العالم الأول» والتي لا تزال آثاره المدمِّرة تفعل فعلها وتجرجر جرائرها في بطاح العالم الثالث وغاباته، فإنّ تلك الدول الغنيّة، التي تعتذر أحياناً - وبعد فوات الأوان ووقوع «الفأس في الرأس»- عن مخازي وجرائم ذلك الماضي، لم تشفع تلك الاعتذارات - كما فعلت إيطاليا مع ليبيا - بما يخفِّف من وطئ ذلك الماضي وتبعاته بسياسات أكثر رحمة وإنسانيّة، بل عمدت عبر حكوماتها ومستثمريها إلى شراء أراضي الدول الفقيرة أو استئجارها لمُدد طويلة، سياسات - عوضاً عن المشاركة والتنمية الريفيّة التي تستهدف الإنسان - ستنتهي بلا شك إلى تدمير صغار المزارعين بتحويلهم إلى أُجراء في ارضهم أو بتشريدهم عبر استخدام الميكنة والآليّات الحديثة في العمليّات الزراعيّة، بما يدفع هؤلاء المشرّدين إلى النزوح إلى مدن بلادهم «فيريِّفونها» ليزيدوا طين الدول النامية أو «النايمة» بلّةً. وبالرغم من هذا، فإنّ اللوم لا يقع كله على قادة الدول الغنيّة ومؤسّساتها وشركاتها العابرة للقارات، إنّما يتقاسمه معها - عن جدارة - قادة الدول الفقيرة، الذين يكرِّسون كل جهدهم من أجل استدامة سلطانهم وتعظيم ثرواتهم الشخصيّة، بحيث يصبحون «أغنياء يحكمون أهلهم الفقراء»، دون أدنى اكتراث بالمآلات والتداعيات الناتجة عن مثل هذه المعادلة الظالمة، وفي مقدِّمتها القلاقل والتمرُّدات وعدم الاستقرار، ناهيك عن مثلث الجوع والجهل والمرض الذي يطحن شعوبهم بلا رحمة. واهمٌ من ظنّ أن مؤتمر روما للأمن الغذائي سيحل أزمة الغذاء أو أزمة المناخ - المناخ الذي افسدته الأبخرة والأكاسيد المتصاعدة من معامل الدول الصناعيّة الكبرى - فذلك حلمٌ بعيد المنال. وفي حسن الأحوال فإن قدراً يسيراً من تلك العشرين مليار دولار سيتم جمعها عبر تبرُّعات تصبُّ في تخفيض الضرائب لأثرياء العالم الأول، أو بادّعاء الاستثمار المنتج في الأراضي المشتراة أو المستأجرة والتي ستساهم بلا شك في ارتفاع أرباح المستثمرين في ضوء أزمة الغذاء وارتفاع أسعاره، وتزيد الفقراء فقراً والجوعى جوعاً، «ليدفن الموتى موتاهم» كما يقول الشاعر.. ولله الأمر من قبل ومن بعد!