محمد بشير عتيق اسم ضخم في مجال الشعر الغنائي بالسودان ولا يستطيع اى مؤرخ لهذا الشعر أن يتجاوزه، فهو محطة لابد من الوقوف عندها، وينطبق على أشعاره وصف (السهل الممتنع) ولا غرو فقد امتلك عتيق ناصية العربية ودعم ذلك بثقافة واسعة عبر قراءاته في كتب الأدب ودواوين الشعر وغيرها. وشاعرنا من مواليد 1909م بمدينة أم درمان، وكان والده يعمل معلماً للغة العربية والتربية الإسلامية بالمرحلة (الابتدائية)، وعندما نقل الى مدينة الدويم اصطحب معه ابنه الصغير الى هناك وهو بعد في الخامسة من عمره ولما لم يكن الصغير قد بلغ سن القبول بالمدرسة فقد كان يذهب إليها مع والده (مستمعاً) الى ان تم قبوله بعد بلوغه السن المقررة. وعندما أكمل عتيق تعليمه الأولي لم يوفق في الدخول الى المدرسة الوسطى رغم ذكائه الحاد وميله الشديد للقراءة، ويعود ذلك الى ان مهنة (البرادة) قد ملأت عليه أقطار نفسه، وهكذا قاده ذلك الى امتهان البرادة في مصلحة السكة الحديد منذ 1930م وحتى تقاعده فى العام 1962م. ومنذ ان كان عتيق طالباً بالمدرسة الصناعية كان يعالج نظم الشعر رغم قصور أدواته وطراوة ملكته آنذاك إلا ان ناظر المدرسة كان يشجعه ويؤكد له ان لديه ملكة شعر غنائية وانه سيكون له شأن في يوم من الأيام، أما بدايته الحقيقية كشاعر غنائي فقد كانت بعد تعرفه على الشاعر الكبير صلاح عبد السيد (أبوصلاح) والذي كان عتيق يكن له إعجاباً شديداً ويفضله على غيره من الشعراء. وقد استطاع شاعرنا عن طريق التثقيف الذاتي ان يحصل ثقافة رفيعة وواسعة بحسب ما هو متاح في عصره، ولك ان تعلم انه كان مولعاً منذ صغره بالقراءة عكس ما يكون عليه من هم في سنه عادة من ميل للهو واللعب، وقد أتاحت له مكتبة والده العامرة بنفائس الكتب ان يرضي هوايته، وقد استطاع ان يقرأ وهو صبي أشعار ابن الفارض، والأغاني للأصفهاني، وجواهر الأدب، والمجموعة النبهانية وغير ذلك من ذخائر التراث العربي. في عصر عتيق كانت المدرسة الرومانسية ليس على مستوى الشعر السوداني وحده، وإنما على مستوى العالم العربي والعالم الغربي فقد كانت تعد وقتذاك ثورة في الأدب عامة والشعر بصفة خاصة، والى هذه المدرسة كان ينتمي شاعرنا فكانت قصائده تنضح برومانسية رقيقة، وقد نلاحظ ان (القمر) كان كثير الورود في مفرداته الى جانب مكونات الطبيعة الأخرى، ولننصت لصوته وهو يشدو:- القمر بضياه الق والنجوم بعيون تسارق باشتياق تنظرنا من خلف الستور والطيور تسجع طرب عاملة مزيكة قرب ونحن صار مجلسنا عامر في طرب باحتفال بى نشوة في غبطة وحبور وانظر براعة النظم وعذوبته في المقطع التالي: انا يا جميل من صوت ضميري المستتر من شعري كم اسمعتك الحان من وتر وأنا بى غناي أسمعت سكان الشجر وعبارة (سكان الشجر) تلفت نظرنا أيضاً الى ولع الشاعر بالطيور وذكرها في الكثير من قصائده مثل قوله (والطيور تسجع طرب)، وقوله في القصيدة الغنائية المشهورة (أذكريني يا حمامة كلما ساجع ترنم)، أو قوله في قصيدة أخرى : غير ان القمري يهتف بى هوانا ومن أغاريد فنو يسمعنا اسطوانة ولعتيق قدرة فائقة على مزج المفردات العامية بالفصيحة، وزخرفة قصيدته بالتشبيه والجناس والطباق مما يجعل من قصيدته لوحة عامرة بالألوان البديعة، وانظر قوله: فيم هجراني وعلاما يا الهواك صار لى علامة شاهرة لى دايماً سلاحك وموتي واجب في اصطلاحك ولى هواك من بدري هالك ونعود لنقول ان أشعار محمد بشير عتيق رغم اتصالها بتوجهات الشعر الغنائي في عصره إلا إنها تمثل مدرسة فريدة رفدتها ثقافته وتملكه ناصية البيان وملكته الشعرية الفذة، ولذلك سيظل اسم عتيق خالداً في ساحة الشعر الغنائي السوداني.