الشرطة جهاز ابتدعه المواطن في الأساس لحماية الأرواح، والممتلكات، والأموال، والحفاظ على الأخلاق، إلا إن العلاقة بين ذلك المواطن والجهاز الذي ابتدعه علاقة من نوع فريد، يشوب مسارها الشعور بالمرارة لدى البعض من طرفي العلاقة- ويكتنفها الكثير من الغموض للدرجة التي تثير الاهتمام، وتستوجب التصدي لهذه العلاقة بالدراسة والتمحيص لتجاوز تلك السلبيات، وتنمية العلاقة الطيبة والحسنة بينهما، وصولاً بها للغاية المنشودة، وهي تضامن الشرطي والمواطن وتكاتفهما في التصدي لكل ما من شأنه اعتداءٌ سواء على روح الإنسان أو الممتلكات أوالأموال التي تخصه. المواطن لا يلجأ للشرطة إلا شاكياً من اعتداء وقع أو سيقع عليه- أو شاهد على وقوع ذلك الاعتداء، أو متسبباً في - وقوعه- وواضح من هذا أن أساس العلاقة بينهما هو وقوع الاعتداء، أو توقع وقوعه وتحسبه، وعلاقة كهذا أساساً هي علاقة تميزها خصائص معينة، كما أنه تحكمها ضوابط غريبة حقاً.. الشئ الذي يستوجب أن نتناول ما يشوب هذه العلاقة من مثالب، قد تؤدي تنميتها وتطورها. كثيراً ما نلاحظ سلوكاً سلبياً من المواطن والذي لا تربطه أية صلة بالجاني أو المجني عليه، فهو لا يبلغ إطلاقاً بالحادث، بل يبتعد بنفسه عن الواقعة، متيحاً بذلك وقتاً ثميناً للجاني ليهرب بعد أرتكابه لجريمته، ومضيعاً وقتاً ثميناً على الشرطة بتأخر وصول البلاغ اليها، وما يترتب على ذلك من ضياع للآثار والمتعلقات التي تعتمد عليها الشرطة في اكتشاف الجاني والقبض عليه. إن هذا السلوك السلبي من قبل المواطن في تصورنا لم يأت وليد الصدفة، بل هو نتاج طبيبعي في تقديرنا للممارسات الخاطئة التي كانت تستخدم فيها الشرطة عبر السنين، منذ عهد الحكم التركي المصري وحتى عهد الحكم الثنائي، بواسطة السلطة الإدارية المسؤولة. فقد كان الباشبزق والعسس يقومون بحراسة الأسواق، وجباية الضرائب من المواطنين بأسلوب إرهابي فظ. كما أن البوليس في عهد الحكم الثنائي الحديث كان يتصدى لمظاهرات المواطنين، التي كانت تندد بالاستعمار وتنادي بحرية الشعب، وكانت الشرطة أو البوليس في تصديها تتبع أسلوبين: الأول جمع المعلومات عن المتظاهرين وأماكن تجمعهم.. الثاني هو التصدي لتلك التجمعات بأدنى قدر من القوة لتفريقها أو لمنعها من التظاهر، وغني عن القول بأن كلا الأسلوبين (كريه)، ولا شك أن ما قامت به الباشبزق والعسس في العهد التركي، وما كالوه للمواطنين من عذاب في جمع وجباية الضرائب، بالإضافة إلى تصدي البوليس لمظاهرات المواطنين، الذين كانوا يناضلون للتخلص من الاستعمار.. كل ذلك قد ساعد على ترسيب صورة كريهة في أعماق المواطن تبرز للسطح كلما دعت الظروف لاحتكاكها. إننا في الشرطة نتوقع من المواطن أن يبذل بعض الجهد لحماية نفسه وممتلكاته ضد النشاط الإجرامي الذي يمارس وجوده، وأن يقدم للشرطة كل المساعدات الممكنة، بالإضافة إلى ما يكون لديه من معلومات تساعد على كشف الجريمة وضبط الجاني، ولن يتم كل هذا بصورة مرضية ما لم يتوفر وعي شرطي لدى المواطنين، بما ينمي لديهم روح التصدي لمكافحة السلوك والعدوان غير المشروع، الذي وقع على أشخاصهم أو ممتلكاتهم، أو أشخاص وممتلكات الغير، والتطوع بالأدلاء بكل المعلومات والبيانات مهما كان حجمها، التي تتعلق بأي سلوك مشبوه يفيد الشرطة كثيراً في استجلاء غموض ما يقع ويحدث من جرائم. ولاشك أن هذا الوعي لدى جمهورنا مازال يحتاج إلى جهد كبير لتنميته والوصول به إلى المستوى المطلوب. إن تخلف الوعي لدى المواطنين يترتب عليه إزدياد في معدلات ارتكاب الجريمة وانتشارها، وبالتالي اهتزاز الثقة بالشرطة ويأتي رد الفعل لذلك لدى الشرطة ويتمثل في تبادل السخط مع المواطنين لتسيبهم بعدم وعيهم. مثلما أن العلم يتطور والتقنية تتطور، وأجهزة مكافحة الجريمة تتطور، فإن الجريمة في تطور مستمر، والمجرمون أنفسهم لا يتوقفون عن تطوير أساليب ارتكابهم للجرائم، خصوصاً في عصر أصبحت فيه وسائل الاتصال مسخرة للخير والشر في آن واحد، وأن مثل هذا التطور يفرض على مجتمعاتنا بمؤسساتها المختلفة النظر بجدية تامة إلى أهمية التفوق على المجرمين وضرورته.. وبخاصة أولئك الذين يستهدفون قتل الأبرياء، وتخريب المنشآت التنموية، باعتبارها رمزاً من رموز التقدم والحضارة والازدهار، وهنا تأتي أهمية تفعيل دور الأجهزة تفعيلاً يتناسب وحجم تطور العصر، وفي مقدمة هذه الأجهزة ( الأمن والإعلام)، باعتبار أن كلاً منهما يكمل الآخر، فقد آن الآوان لأن يكون هناك دور تكاملي ملموس بين الإعلام والأمن، يحقق النتائج المطلوبة على المستويات الإجرامية والتخطيطية والتنفيذية المختلفة، ويتجسد هذا الدور التكاملي من خلال تفعيل الأدوار تفعيلاً يرقى إلى مستوى القيادات الأمنية العربية، التي تنشد مثل هذا التفعيل الجاد البنَّاء والناجح. صحيح أن الإعلام يقوم بأدواره التقليدية المعروفة التي حددها خبراء الإعلام قبل سنوات طويلة مضت، وأنه يقوم بدور لا بأس به في توعية الناس وتبصيرهم بأخطار الجريمة والإنحراف، لكن هذه الأمور أصبحت في عصر التطور أموراً تقليدية تستدعي من الإعلام أن يتخطى الحواجز، ويتصدر المواجهة ليكون سداً منيعاً في وجه الأعاصير والتحديات، التي تستهدف مجتمعاتنا العربية والإسلامية.. من المؤكد أن لوسائل الإعلام أثراً كبيراً على تفكير الجمهور، واتجاهه مختلف الاتجاهات وتنميتها وتوجيهها والتأثير عليها، ومما لا شك فيه أن هذه المسائل لها أهمية كبرى بالنسبة لجهاز الشرطة، ذلك للأسباب الآتية: كثيراً ما تستعين الشرطة بوسائل الإعلام المختلفة في أعمال البحث الجنائي، كنشر أوصاف المال المفقود أو المسروق، بالإضافة إلى نشر الكثير من التحذيرات والتوجيهات للمواطنين في مختلف المناسبات، أو طلب العون أو المساعدة من المواطنين للتقدم للشرطة بأي معلومات تتوافر لأي فرد منهم عن حدث معين. 2/يمكن أن يستعين جهاز الشرطة بوسائل الإعلام ليشرح ويوضح أسلوبه في العمل للمواطنين، وذلك كوسيلة اتصال فعالة تساهم بشدة في بناء علاقات وطيدة وطيبة بين الشرطة والمواطنين. 3/ جهاز الشرطة في الجانب الآخر له دور مؤثر بالنسبة لوسائل الإعلام المختلفة، فطبيعة أعمال الشرطة هي بمثابة أخبار على قدر كبير من الأهمية تسعى وسائل الإعلام المختلفة للحصول عليها. 4/ كثيراً ما يستعين العاملون في مجال الإعلام برجال الشرطة لتسهيل مأمورياتهم المتعلقة بالعمل. وواضح من هذا أن لوسائل الإعلام أثراً واضحاً في علاقة الشرطة بالمواطنين، فالصحفي الذي لا يتحرى الدقة أو الذي يلجأ إلى المبالغة أو الإثارة في نشر الأخبار المتعلقة بالجريمة، قد يساهم في خلق رأي عام يفقِّد الثقة في أجهزة الشرطة، من هنا يجب أن يرعي تقديم ونشر مثل هذه الأخبار بأسلوب معين بعيد عن الإثارة والافتعال، مع القاء الضوء على جهود الشرطة التي بذلت وأدت إلى كشف الجريمة أو استجلاء غموضها. إن العمل على إزالة كل أثر ضار من نفوس المواطنين، أصبح واجباً محتماً، إذ لا يمكن بناء علاقة طيبة مع جمهور لا يؤمن إيماناً عميقاً بقدرة الهيئة التي تقوم بخطط الأمن وإرساء قواعد النظام، وتحافظ على أرواح المواطنين وأموالهم وممتلكاتهم. ü لواء شرطة متقاعد مدير إدارة المباحث الجنائية المركزية الأسبق