إنسحاب بعض أحزاب المعارضة من السباق الانتخابي، ولم يبقَ على العملية الانتخابية إلا أياماً معدودات يدل- وبشكل قاطع- على أن أحزاب المعارضة لا تؤمن بالممارسة الديمقراطية.. وإذا كان الأمر كذلك وما خرجت به المعارضة أمس الأول قرار صحيح، فلماذا أقدمت بعض الأحزاب التي سحبت مرشحيها على ملء الساحة السياسية بالصراخ والعويل، والقاء الاتهامات جزافاً، والطعن في نزاهة الانتخابات، قبل أن يقبل الناخبون إلى صناديق الاقتراع.. أليس هذا نوعاً من العبث السياسي والتلاعب بعقلية القواعد الجماهيرية.. نطرح هنا سؤالاً مهماً.. لماذا لم تقم هذه الأحزاب بمقاطعة العملية الانتخابية قبل أن تقدم مرشحيها إلى حلبة السباق الانتخابي لكل المستويات؟. وماذا وراء هذا الانسحاب في هذا الوقت بالذات!! هل جاء ذلك بعد أن استدركت الأحزاب المنسحبة أن فرصها ضئيلة في الفوز بأي مقعد حتى لو في القوائم النسبية.. وهل سلكت الأحزاب المنسحبة أن فعلت فعلتها هذه لتفاجئنا بعد الانتخابات بأن هناك تلاعبا وتزويرا وعدم نزاهة، وأن حزب المؤتمر الوطني زور الانتخابات ليبقى في السلطة.. أمر المعارضة محير، فالذي حدث بالأمس أنه أمر مخزٍ، ويفقد أحزاب المعارضة مصداقيتها لدى القواعد الجماهيرية.. فهذه الأحزاب أول ما نادت باجراء الانتخابات، وصرح بتصريحات مفادها أنها ستكتسح الانتخابات في مستوياتها المختلفة.. وستقلع حزب المؤتمر الوطني من جذوره، وستنهي عهداً شمولياً إيذاناً ببداية عهد جديد يسمى بالديمقراطية الرابعة. خسرت الأحزاب المنسحبة كثيراً، وعرف الجميع أنها فشلت في الاستعداد، ولم تعمل حساباً لخوض الانتخابات بجدية، وأخطأت عندما ظنت أن تجمعات الوهم وتحالفات المصالح الذاتية ستحقق لها ما تصبو إليه، وهذا ما ظهر جلياً عندما فشلت أحزاب المعارضة حتى في الاتفاق على مرشح رئاسي واحد مسنود من عدة أحزاب لمنافسة المرشح الرئاسي لحزب المؤتمر الوطني.. ولذا فما جدوى الاجتماعات واللقاءات اليومية لأقطاب المعارضة وحلفائهم الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة لانتهازها للكيل لحزب المؤتمر الوطني.. ولماذا تقاعست الأحزاب السياسية ذات الوزن الثقيل عن إدارة دفة الأمور نحو الهدف المنشود، وهو إسقاط المرشح الرئاسي لحزب المؤتمر الوطني. ومنذ أن فشلت المعارضة في توحيد الرؤى بينها وضح جلياً لدى المتابعين للشأن الانتخابي، أن انسحابها من السباق الانتخابي حقيقة ماثلة.. ولكن يبدو أن العزة بالإثم جعلت إعلان الانسحاب يجئ متأخراً. ويبدو أن فهم أحزاب مؤتمر جوبا لما يدور في عقلية القيادات العليا من حزب الحركة الشعبية مبني على سيناريوهات قديمة، ولم تستدرك هذه الأحزاب التطور المتقدم والحديث لعقلية قيادات الحركة، فلم يعد الإنسان الجنوبي كما كان من قبل، ستة عقود مضت والتجارب منذ نيفاشا وحتى الآن أثبتت أن الحركة الشعبية تتعامل بالأسلوب الديمقراطي، ومازالت الأحزاب المعارضة وخاصة ذات الثقل لم تتخلَ عن فرض رأيها على قواعدها بأسلوب ديكتاتوري غير قابل للنقاش أو الحوار أو التعديل.. فشتان ما بين عقلية حزب الحركة الديمقراطية وعقلية أحزاب المعارضة الديكتاتورية، التي بلا مبررات مقنعة تفرض قراراتها دون مراعاة للسلوك الديمقراطي، الذي يجب أن يتعامل به مع أحزاب مقبلة على انتخابات فاصلة. أسفين الحركة الشعبية الذي دقته في جسد أحزاب جوبا بسحب مرشحها الرئاسي كان صدمة عنيفة تلقاها الحلفاء من المعارضة الواهمين بأن الحركة الشعبية تناصرهم وتشد من أزرهم ضد حزب المؤتمر الوطني.. ونسيت أحزاب جوبا والمعارضون المتشردون أن هناك مصالح مشتركة بين شريكي نيفاشا، والحقيقة الخافية على الجميع أن مهما أختلف الشريكان في وجهات النظر فمازالت شعرة معاوية وقبعة سلفا.. وبزة البشير روابط بينها، لا أحد يعرف أسرارها وخفاياها.. فأسفين الحركة تمرين سياسي يجب على أحزاب المعارضة الوقوف عنده لدراسته جيداً وتقييم المواقف السياسية ومفاجآتها. مشهد الانسحاب الجماعي للمرشحين من أحزاب المعارضة يعطي مؤشراً واحداً هو نية للمعارضة في تقويض العملية الانتخابية واجهاضها، والتشكيك في العملية الانتخابية، لكن اصرار البعض بضرورة قيام الانتخابات في موعدها المحدد وخاصة حزب المؤتمر الوطني، يدل على أن الممارسة الديمقراطية لها من يدافع عنها، وأن السودان مازال بخير، وإن كان البعض يريد أن يراها محترقة، فالمسألة عندهم ليست كما يرددون، تحول ديمقراطي وتداول سلمي للسلطة.. ولكن كيفية الوصول للسلطة حتى ولو على جماجم وهياكل مواطني السودان.. وبالرغم من السلوكيات النشاز التي تصدر عن ما يسمون أنفسهم حماة الديمقراطية، لكن هؤلاء تظل صورتهم السياسية مهزوزة لدى الناخب السوداني.