دعونا ننتقل اليوم من ساحة انتخاباتنا المرتبكة والمضطربة، إلى انتخابات العراق التي انقضى أجلها وأعلنت نتائجها، لكن قبل الانتقال لابد من تسجيل بعض آخر التطورات التي تخص انتخاباتنا، والتي أهمها في نظري هو الانغماس الأمريكي اللافت في الشأن السوداني، لدرجة بدا معها أن الارتباك والاضطراب الذي لازم هذه الانتخابات قد ألقى بظلاله على المواقف الأمريكية جراء الجدل الدائر بين المعارضة والحكومة حول التأجيل وعمل المفوضية القومية للانتخابات، فقد لاحظنا بالأمس أن واشنطن بدأت تتحدث بلسانين. ففي الوقت الذي أثنى فيه المبعوث الرئاسي الأمريكي الجنرال سكوت غرايشن على عمل المفوضية ونزاهة وشفافية إجراءاتها ونادى بإجراء الانتخابات في موعدها، خرج المتحدّث باسم الخارجية الأمريكية ليصرّح بعدم ممانعة بلاده من تأجيل محدود لموعد الاقتراع، لمدة شهر مثلاً، وذلك لأهمية الاستماع إلى انشغالات المعارضة ومعالجة شكوكها التي رأى أنها شكوك معقولة، لتقترب الخارجية الأمريكية بذلك من مطالب بعض أطراف المعارضة وهي نفس مدة التأجيل التي طالب بها حزب الأمة ضمن شروطه الثمانية للمشاركة في الانتخابات، بينما تخندق الجنرال غرايشن في موقفه المؤيد لموقف المؤتمر الوطني والحكومة والذي لا يجد المراقبون له تفسيراً سوى ما صرح به أخيراً من أنه يريد أن تكون الانتخابات مقدمة «لطلاق مدني» بين الشمال والجنوب، يكون هو شاهده. أما في العراق فإن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة قد أفرزت وضعاً مأزوماً نتيجة للتقارب الشديد في عدد المقاعد البرلمانية التي حصدتها الكتل السياسية الكبيرة، وهي القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي التي نالت 92 مقعداً وقائمة ائتلا دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء المنصرف نوري المالكي ولديها 89 مقعداً وقائمة الائتلاف الوطني بقيادة الزعيمين الشيعيين مقتدى الصدر وعمار الحكيم التي أحرزت 70 مقعداً وقائمة التحالف الكردستاني بقيادة الرئيس العراقي جلال الطالباني ورئيس حكومة كردستان مسعود البرزاني ذات ال(43) مقعداً. الأنباء الواردة من بغداد تُشير إلى أن زعيم القائمة العراقية إياد علاوي يتقدّم على خصمه رئيس الوزراء نوري المالكي في سباق التحالفات بعد أن تخطاه من قبل في مضمار الانتخابات، فبدا أن الائتلاف الوطني العراقي حليف المالكي السابق يميل الآن بوضوح إلى التحالف مع علاوي، فقد سمعنا منذ أيام قليلة مضت السيد عمّار الحكيم يشكك في الاتهامات التي يطلقها خصوم العراقية وفي مقدمتهم المتحدثون باسم قائمة دولة القانون والقائلة بأن «العراقية» هي قائمة تضم بعثيين، بل ذهب أكثر من ذلك للإشادة الصريحة بوطنية إياد علاوي ورفقته النضالية لهم لأكثر من عشر سنوات في مواجهة حكم البعث وصدام حسين. ومن ناحية أخرى فإن السيد مقتدى الصدر عمد إلى إجراء استفتاء وسط مناصريه ليقرروا أي الزعماء يفضلون في رئاسة الوزراء وطرح أسماء ثلاثة هم علاوي والمالكي والجعفري، في خطوة غير معهودة أملاها الجدل الدستوري الدائر في الساحة حول من يحق له تسنم رئاسة الحكومة، هل هو صاحب القائمة الفائزة بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات أم صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر نتيجة التحالفات؟ المراقبون لا يستبعدون أن تأتي نتيجة هذا الاستفتاء لصالح علاوي، كنتيجة للدعم المعنوي والإشادة التي تلقاها من الحكيم وكقراءة لتحركات الصدر ذاته في دول الجوار العربية، حيث قام بزيارة كل من الرياض وعمان ويرتب بحسب الأنباء لزيارة القاهرة، بعد أن زار طهران ابتداء والتقى هناك وفداً من العراقية، ومع ذلك فإن هؤلاء المراقبين يعتقدون أن شارة المرور «الخضراء» والحاسمة تُضاء من هناك من العاصمة الإيرانية، وبدون الحصول على ضوئها فإن علاوي لن يتمكن من نيل رئاسة الوزراء، بالرغم من تصريحات السفير الأمريكي كريستوفر هِل القائلة بأن الحكومة العراقية «تُصنع في العراق وبأيدي عراقية» استنكافاً للزيارات التي يقوم بها السياسيون العراقيون لدول الجوار لإجراء مشاورات حول تشكيل الحكومة. بالحساب البسيط والمباشر فإن قائمة علاوي الحائزة على (92) مقعداً إذا ما تمكنت من ضمان قائمة الائتلاف الوطني العراقي بقيادة الصدر والحكيم ذات ال(70) مقعداً تكون قد شكلت كتلة برلمانية من (162) مقعداً، ولن تكون أمامها مشكلة في نيل المقعدين الإضافيين من الكتل الصغيرة الأخرى لتأمين الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة، لكن التوجه العام لدى علاوي وقائمته العراقية هو تشكيل أوسع تحالف ممكن بحيث تأتي الحكومة كحكومة وحدة وطنية نظراً لما يواجه العراق من مشكلات وأزمات طاحنة تتطلب التفافاً وإجماعاً وطنياً عريضاً، وليس أدلَّ على هذا الوضع المستشكل والمأزوم من الهجمات والتفجيرات المتوالية بشكل يومي في أنحاء بغداد وعلى مستوى العراق ككل والتي أودت منذ انقضاء الانتخابات بمئات القتلى والجرحى ودمّرت عشرات المباني العامة والممتلكات الخاصة، وكان آخرها هجمات صباح الأمس التي استهدفت ثماني بنايات في وقت واحد.