دعونا اليوم نخرج قليلاً من الشأن المحلي الصرف للنظر في بعض ما يجري من حولنا، ففي مثل هذا النظر عبرة لأولي الألباب، فقد مضى على إجراء الانتخابات العراقية الآن أكثر من شهرين ونصف الشهر، ولا زال يُدار بحكومة «لتصريف الأعمال» نظراً لاختلاف القوى السياسية حول من يحق له تشكيل الحكومة، بعد أن أفرزت تلك الانتخابات تقارباً شديداً بين الكُتَل السياسية، حيث أحرزت القائمة الفائزة بالمركز الأول «قائمة العراقية» برئاسة الدكتور إياد علاوي «92» مقعداً، بينما أحرزت القائمة التالية، قائمة «دولة القانون» برئاسة رئيس الوزراء المنصرف نوري المالكي «89» مقعداً وقائمة الائتلاف الوطني العراقي بقيادة عمار الحكيم نحو «70» مقعداً والتحالف الكردي بقيادة الرئيس جلال الطالباني ومسعود البرزاني «43» مقعداً. تقارب النتائج بين هذه الكتل السياسية المتنافسة جعل من العسير على الرئيس طالباني تسمية رئيس الوزراء للحكومة المنتظرة، خصوصاً فيما يتصل بفض الاشتباك بين الكتلتين الأكبر، كتلة علاوي وكتلة المالكي. فعلاوي يرى أنه بحكم الدستور يجب إسناد مسؤولية تشكيل الوزارة لشخصه ولكتلته الفائزة بأكبر عدد من المقاعد، والمالكي، الذي طالب بإعادة الفرز يدوياً واتهم المفوضية العليا للانتخابات بتزوير النتائج عبرالفرز الاليكتروني وجاءت نتيجة الفرز اليدوي مطابقة لنتائج الفرز الاليكتروني، مازال يطالب بأن يسند له ولكتلته «الجديدة» المشكلة من «دولة القانون» و«الائتلاف الوطني» تشكيل الوزارة الجديدة. وهنا نشأت مشكلة في تفسير الدستور، وفي ما إذا كان الدستور يعني في مادته «36» التي تنص على حق «الكتلة الفائزة» بتشكيل الحكومة، الكتلة المشكلة قبل إجراء الانتخابات أم كتلة تنشأ بحكم تحالف جديد بين قوائم فائزة بعد الانتخابات كالذي حدث بين «دولة القانون» و«الائتلاف العراقي»، وفي غياب «محكمة دستورية» في العراق فقد رُفع الأمر للمحكمة الاتحادية العليا التي رأت أن الكتلة الفائزة هي التي أحرزت أكثر المقاعد فور إعلان نتائج الانتخابات، لكن حتى هذا الحكم ليس نهائياً لأن المحكمة الاتحادية ليست «محكمة دستورية» وبالتالي لابد من عرض قرارها على البرلمان عندما يلتئم شمله في الجلسة الأولى ليصوِّت النواب على تثبيت هذا الحكم أو رفضه. منذ ثلاثة أيام دعا الرئيس جلال الطالباني زعماء الكتل النيابية الفائزة وقادتها إلى مائدة غداء كبرى حضرها أكثر من خمسين مدعواً، وغاب عنها الدكتور إياد علاوي الذي تم تعليل غيابه بأنه في سفر خارج البلاد، وحضرها المالكي وكل زعماء الكتل الأخرى. طالباني قصد من تلك «اللمة الاجتماعية» تلطيف الأجواء وخفض درجة الاستقطاب والتوتر في علاقات الساسة العراقيين بما ييسر الهدف الأكبر وهو تشكيل حكومة تحالف وطني عريض تكون كفيلة بإخراج العراق من محنته المتطاولة وتعيد إليه الاستقرار بعد سبع سنوات من الاضطرابات والتفجيرات ونقص الأنفس والثمرات، بغض النظر عمن يكون في رئاسة الحكومة، وانفضت المائدة بينما يتحدث الزعيمان«المتكاجران» لأجهزة الإعلام -كل على حدة- أن لامانع لديه من لقاء الآخر وأن لامشكلة شخصية بينه وبين الآخر، لكن كلاهما يتحدث علناً -أيضاً- وعلى رؤوس الأشهاد بأن تشكيل الحكومة «حق طبيعي» له، لأنه يمثِّل الكتلة الأكبر، علاوي بكتلته الفائزة في الانتخابات والمالكي بكتلته المشكلة ب«التحالف» بعد الانتخابات. سألت صحيفة «الشرق الأوسط» المالكي يوم 16 مايو الحالي عن الخلافات بينه وبين زعيم القائمة العراقية إياد علاوي من جهة، ومع حلفائه في الائتلاف الوطني العراقي الذي يقوده المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم الذي يرفض من جهة أخرى عقد لواء زعامة التحالف الجديد لنوري المالكي، وكيف سيواجه هذا الموقف المعقد، فنفى المالكي «ما يُشاع» عن وجود خلافات، وقال إنه «كلام غير دقيق» وانه ليس لديه خلافات شخصية مع أي من الشخصيات السياسية، بل لديهم «خلافات في وجهات النظر» وتساءل: ما الضير في هذه الخلافات؟ وقال: بالنتيجة لا يمكن لأي عاقل أن يؤسس لحكومة ولبلد مستقل بكتلة واحدة قائمة بذاتها، والجميع لديه الحق في بناء البلد، والساحة العراقية مفتوحة ومعرَّضة لمختلف أنواع التلاعب التي تصوِّرالخلافات وكأنها عداوات، ليس هناك عداوات مع الدكتور علاوي أو مع «الائتلاف» أو «العراقية» أو التحالف الكردستاني، ولكن الخلل الذي لا نقبله هو التهديد بالعنف وقلب العملية السياسية وغير ذلك، والإشارة الأخيرة «للعنف» تعني تصريحات د. علاوي التي قال فيها إنه اذا لم يعط وقائمته الحق في تشكيل الحكومة فإن البلاد ستنزلق إلى العنف و«الحرب الطائفية». وعلاوي يشير من جانبه هنا إلى نتائج الانتخابات الأخيرة التي منحت قائمته الصدارة بأصوات الناخبين السنة، بينما اعتمد غرماؤه في «دولة القانون» و«الائتلاف الوطني العراقي» على أصوات الشيعة خصوصاً في الجنوب وبغداد، ما يعني أنه تكتل الفريقين في مواجهة كتلة إقصاء للسنة من قبل الشيعة. وسألت مجلة «المجلة» البروفيسور شارلس تريب أستاذ الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن والخبير المعروف في الشؤون العراقية عن التحديات الرئيسية التي ستواجه الحكومة العراقية الجديدة بعد تشكيلها، فأجاب: بالطبع بعد قضية «كردستان» من أهم التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة -ألا يذكرنا هذا السؤال وهذه الإجابة بأن أهم تحدٍ سيواجه حكومتنا الجديدة المنتظرة أيضاً هو «قضية الجنوب» والاستفتاء؟!- ومضى د. تريب يقول: السؤال المطروح بقوة هو: كيف تستطيع الحكومة الجديدة احتواء الأكراد ودمج المنطقة الكردية في العراق من جديد. أما القضية الأخرى فتتمثل عنده ببساطة فيما إذا كانت الحكومة الجديدة ستصبح قادرة على توفير الموارد الأساسية للشعب العراقي، فلا تزال هناك معاناة في الخدمات العامة مثل الصرف الصحي والمياه والكهرباء، والشعور السائد بين الكثير من العراقيين «أن قادتهم يتجاهلونهم».. أليس هذا أيضاً بعض مما يجب أن تنتبه له حكومتنا المنتظرة، فكثير أيضاً من السودانيين يعانون مما يعاني منه العراقيون ويشعرون بأن قادتهم يتجاهلون، خصوصاً في مجالات الموارد والخدمات الأساسية، واتساع رقعة الفقر مع ازدياد الأغنياء غنىً، وفي كل ذلك عبرة لأولي الألباب.