كان اكتشاف الجرائم ومعرفة فاعليها موكلاً إلى مجرد الصدفة، فلم يقم على قواعد وإجراءات عملية وفنية، وأن عدم التعرف على الجناة في الجرائم يؤدي للإخلال بالحالة الأمنية ولعله من أظهر هذه الأسباب قلة الوعي الأمني لدى أبناء المجتمع، ولقد بلغ المجرمون مبلغاً كبيراً في القدرة على التضليل وإخفاء الجريمة وإصرارهم على الإنكار.لقد كان التحقيق الجنائي فيما قبل القرن الثامن عشر الميلادي يعتمد على استعمال التعذيب والقسوة لإرغام المتهم على الاعتراف ولكن المجتمع أستهجن هذه الطريقة في استخلاص الاعترافات تحت وطأة التعذيب والإكراه ولذلك هجرها معظم المجتمعات، بل أصبح تعذيب المتهم عملاً يعاقب عليه، ثم اقتصرت طرائق التحقيق والبحث الجنائي بعد ذلك على الإرشاد وجمع الاستدلالات وشهادة الشهود، ولكن ظهر عدم كفاية هذه الإجراءات وحدها في الوصول بالعدالة إلى منتهاها، فكان المرشد يقوم بالتحريض على ارتكاب الجريمة، ثم يقوم بالإرشاد عن الفاعل الذي حرضه لإثبات كفاءته في عملية الإرشاد عن المجرمين والجرائم، أو كان يسعى لإسناد الجريمة لأشخاص أبرياء منهم، أما الاستدلالات فلم يعول عليها وحدها لأنها قابلة للنفي من قبل الدفاع. كذلك تبين أنه لا يعول على شهادة الشهود وحدها في مجرى التحقيقات لأنها تحتمل الصدق والكذب، والصواب والخطأ وقد تتأثر الشهادة بقلة ذمة الشاهد أو بيع ضميره أو اعتياد الكذب أو خوفه من المجرم وأهله أو تأثر الشهادة بعامل النسيان، ولذلك يلزم في أغلب القضايا تعزيز شهادة الشهود بالأدلة المادية، وهناك جرائم لا يشاهدها أحد ولذلك اتجهت أنظار المحققين إلى الإستنتاج والقياس وتغليب الأدلة المادية على الأدلة القولية وخاصة المنقول منها عن الغير، وتم اعتماد المحققين على الملاحظات الدقيقة، بمعنى ملاحظة المحقق والخبير الجنائي لكل ما يقع عليه نظره في محل وقوع الجريمة ومحيطها، وعلى جسم المجني عليه وملابسه ونقوده وحليه إن كان امرأة كما يمارس ملاحظته الدقيقة على المتهم وجسمه وملابسه ومحل سكناه ومقتنياته. ويربط المحقق كل هذه الجزئيات وتلك التفاصيل والدقائق بعضها بالبعض الآخر في علاقتها بالجريمة والمجرم والمجني عليه، وتبدو هنا أهمية قدرته على الربط والتحليل والتركيب وإدراك العلة والمعلول، أي الاستدلال من المعلول إلى المجهول أو الحقائق المجهولة، ويشتمل ذلك على النظر في مكان وقوع الحادثة وتوقيته والأداة المستخدمة في الجريمة وموقف الجاني من المجني عليه وقت ارتكاب الجريمة والدوافع التي تكمن وراء ارتكاب الجريمة وإجراء المعاينات الدقيقة والاستعانة بمعامل التحاليل الجنائية وخبراء البحث الجنائي. استخدام المنهج العلمي في التحقيق الجنائي يستخدم المحقق الجنائي في ذلك الطريقة القياسية أي مقارنة الجريمة الحالية ووسائل ارتكابها ووقائعها وظروفها ومشاهداتها بجرائم أخرى سبقتها، فإذا كان المنهج أو الطريق أو الأسلوب واحداً في ارتكاب الجريمة الحالية وجريمة أخرى سابقة، أمكن الاستدلال أن الفاعل فيهما معاً واحد، ويلزم للنجاح في هذه العملية القياسية توفير الخبرة والمران والتدريب والكفاءة ودقة المشاهدة والمعاينة وفحص الحوادث الجنائية الغامضة والقدرة على ربط الأحداث والوقائع وتجميعها واستخلاص النتائج منها وعمل الاستدلال المنطقي الصائب. وإلى جانب هذه الطريقة في وسع المحقق الجنائي القيام بعملية الاستدلال العلمي أو التفكير العلمي أو اتباع خطوات التفكير العلمي، وموادها تحديد المشكلة وتعريفها ووصفها، والتعرف على أبعادها، ولتكن جريمة قتل امرأة شابة في مخدعها في منزلها الخاص، ثم وضع الفروض الممكنة لتفسير هذه الجريمة، والتعرف على فاعلها، والفرض إن هو إلا حل مبدئي لهذه القضية قابل للصدق أو الكذب أو الصواب أو الخطأ، أو التعديل، فقد يكون الدافع وراء هذه الجريمة السرقة أو الغيرة أو الخيانة الزوجية أو الثأر والانتقام أو الاغتصاب، ثم يبدأ في جمع الأدلة والشواهد والبيانات والمعلومات والحقائق والوقائع والاستدلالات حول كل فرض من هذه الفروض، وبذلك يحذف الفروض التي لا تؤيدها الشواهد والأدلة. وهكذا حتى تقل الفروض ويتبقى فرض واحد وبعد غربلة الفروض هذه يتبقى لديه فرض واحد تكمن فيه معرفة الدوافع وراء الجريمة في تحديد الفاعل الحقيقي قبل ضياع معالم الجريمة واختفاء أثرها أو قبل هروب الفاعل خارج البلاد أو داخلها، وعدم توجيه الاتهام إلى الأبرياء.ويلجأ المحقق الجنائي الحديث، إلى استخدام العلم والمنهج العلمي وأساليبه، وإلى المخترعات العلمية والتقنية، وذلك للتصدي للجريمة في المجتمع الحديث.. من ذلك فحص الدم وفصائله وأخذ البصمات والاحتفاظ بسجل المجرمين الخطرين ومعلومات كافية عنهم وتستخدم كل منجزات العلم الحديث ومناهجه في التحقيق الجنائي، خصوصاً علوم الطبيعة والكيمياء والأحياء والفسيولوجيا والطب البشري والطب العقلي والطب الشرعي وعلم النفس وعلم الأنسجة وعلم السموم وما اليها.سمات وقدرات واستعدادات وخبرات المحقق الجنائييؤدي المحقق خدمات جليلة القدرة، عظيمة الشأن في تحقيق العدالة وبسط القانون وإقرار هيبة الدولة وسيادة القانون، وبالتالي تحقيق الأمن والاستقرار والأمان مما يمكن المجتمع من الانطلاق بكل طاقاته نحو الإبداع والإنتاج والتنمية والتقدم والاستثمار والرخاء، فضلاً عن شعور أفراد المجتمع بالراحة والسعادة وبالثقة الكاملة في الأداة الحاكمة وتوثيق عرى العلاقات بين الحاكم والمحكوم، ولذلك ينبغي أن يتحلى المحقق الجنائي ببعض القدرات والخبرات والمهارات والاستعدادات والميول والاتجاهات وسمات الشخصية، وكذلك بالقيم الدينية والأخلاقية، ومن أولى هذه القدرات فهم القانون نصاً وروحاً وغير ذلك من السمات الجسمية والعقلية والنفسية والأخلاقية والروحية والمهارات المهنية، فعلى المستوى الجسمي يجب أن يتمتع بسلامة الجسم والتمتع بالصحة الجسمية السليمة، وكذلك بالصحة النفسية والعقلية السوية، وأن يتحلى بالتوسط والاعتدال وعدم التطرف أو الجمود، وأن يتحلى بالمرونة والاعتقاد في الواقع والوقائع التي يستند اليها فيما يصل اليه اعتقاده في شأن موضوع التحقيق، وعلى ذلك يتسم بالموضوعية والحيدة والدقة والبعد عن الذاتية أو التأثر بآرائه الشخصية.