هي الدور الفعال الذي تؤديه العلوم الشرطية في هذا المجال- تلك العلوم التي ترتكز على استخدام العلوم الطبيعية وما يتصل بها من علوم أخرى كوسائل يستعان بها في الكشف عن الجريمة - بعد أن كان منطق النجاح في البحث الجنائي هو معرفة الباحث الجنائي بأساليب المجرمين في ارتكاب الجرائم ومهارته وصبره ودقته في علمه وما إلى ذلك من مقومات الكفاية. فقد أصبحت هذه الأساليب لا تكفي بذاتها لتحقيق أفضل النتائج في الميدان المشار إليه، ويرجع ذلك إلى تطور أساليب المجرمين واستخدامهم أحدث الأساليب في ممارسة نظامهم غير المشروع، مما يقتضي بالضرورة استمرار رجال البحث الجنائي في تطوير أدواتهم وأساليبهم ومبادرتهم بالانتقال بكل جديد في الميادين العلمية لتحقيق أغراضهم. ولاشك أن الغلبة في السباق بين محترفي الجريمة وبين حفظة الأمن، إنما تكون لمن هو أسرع إلى جني ثمار العلم الحديث وأقدر على توجيهها لمصالحه. إن صعوبة التحقيقات الشرطية تتزايد يوماً بعد يوم، وذلك بأن إيجاد أدوات جديدة للكشف عن الجريمة يواكبه اتباع أساليب جديدة في ارتكاب الجرائم، فزيادة الاتصال بين الأجهزة الشرطية تعادلها سرعة حركة انتقال المجرمين كذلك، ثم أن التغيرات للقوانين الخاصة بالقبض والتفتيش والحجز إنما تزيد من تعقيد مهمة الضابط والمحقق، وهذه العوامل كلها تلقي تبعات جديدة على المحقق الذي يبذل الآن أكثر من أي وقت مضى جهوداً خارقة ويتبع أساليب مضنية للبحث عن دوافع الجريمة، لقد صار لزاماً أن يكون التحقيق الجنائي في يد رجال مزودين بالمعرفة الواقية بالقانون وعلوم الشرطة وفن البحث في مكان الجريمة. وإن كان استخدام الوسائل العلمية هو أهم السمات التي تشكل ملامح البحث الجنائي في عالم اليوم، فإن المواهب الذاتية مازالت وسوف تبقى دائماً عاملاً مؤثراً في الوصول إلى النتائج المنشودة.. والباحث الجنائي الخبير مهمته جمع أكبر قدر من الحقائق التي تستخدم لتحقيق هدف ذي ثلاثة شعب، هي التعرف على الجاني والكشف عن مكانه وتقديم الأدلة التي تزيد اتهامه. والبحث الذي يضطلع به هذا الخبير علم وفن في الوقت ذاته، فالعلم يشكل أحد أدواته الثلاث وهي جمع المعلومات واستجواب المتهمين في أخذ أقوال الشهود واستخدام الوسائل والأجهزة العلمية في سبيل الوصول إلى الحقيقة، والفن هو ما يتوفر للباحث عن عناصر الفطنة والإلمام في اختيار ما يحقق الهدف من تلك الأدوات والوسائل، أو هو بعبارة أخرى استكانة المعالجة الصحيحة للقضية موضوع البحث بالنظر إلى اختلاف أنواع هذه المعالجة وتشعبها. واستناداً إلى هذه الخاصية التي يتسم بها البحث الجنائي وهو كونه فناً فإن من العسير وضع معايير محددة تقاس بها نجاحه أو إخفاقه، فبقاء جريمة دون الكشف عن فاعلها ليس دليلاً على قصور في تحقيقها، كما أن التوصل إلى الجاني لا يعني بالضرورة بأن التحقيق قد سلك طريقاً ذكياً واعياً.. إنما يوصف التحقيق بالنجاح إذا كشف عن كل ما يمكن الوصول إليه من معلومات وأدلة، ويدعم هذا الحكم أن عامل الصدفة لا يمكن إسقاطه من الاعتبار في جميع الأحوال، لذلك فإن القول بتوافر حل لكل جريمة مبالغ فيه.. ومن هذا القبيل أيضاً القول «إن كل جريمة تحمل في ثناياها ما يدل على فاعلها».. إن الفاعل يترك في مسرح الجريمة ما ينم عليه من آثار، والدليل على خطأ هذا الزعم أن كثيراً من الجرائم يستعصى معها الحل بسبب عدم كفاية الأدلة وانعدام شهود الرؤية أو الجهل بالبواعث على ارتكابها أو فقدان الأدلة المادية، وتأسياً على ذلك فإن حل الجريمة بمعنى الكشف عن شخصية المتهم وإلقاء القبض عليه كما هو مفهوم الجمهور، و يعوزه عنصر أساسي من عناصر التحقيق الكامل إذ أنه يشكل هدفين من التحقيق يظل بعدهما المحقق بعيداً عن هدفه النهائي، وهو أن يقدم للمحكمة الأدلة الكافية التي تعزز الاتهام، وتلك هي أشق مرحلة من مراحل التحقيق والبحث وأكثرها تعقيداً، ويزيد من هذا التعقيد ما تفرضه المحكمة من شروط الأدلة وكفايتها وأسلوب تقديمها، فليست الغاية إذن مجرد ضبط الجاني وإنما هو الوصول للحكم بإدانته فهذا يحقق الدفاع عن المجتمع وحمايته ضد الجريمة وتحقيق العدالة في الوقت ذاته.إن حضارة الدول تقاس بإنجازاتها وبما تحققه من مكتسبات لمجتمعاتها، وبما تتمتع به أجهزتها الأمنية من قوة وكفاة تمكنها من الحفاظ على هذه الإنجازات والمكتسبات وتأخذ الأجهزة الأمنية، وفي مقدمتها أجهزة الشرطة موقع الصدارة في تحمل المسؤوليات الجسام باعتبارها المعنية بالحفاظ على الأمن والاستقرار والدفاع عن كل إنجاز تحققه الدولة. فهذه الأجهزة هي الحارس الأمين الذي يحفظ العهد ويصون الأمانة ويوفر الاستقرار ويتصدى لأي انتهاك للحرمات أو أي اعتداء على المقدرات، ويقدم رجل الأمن في سبيل ذلك روحه فداء لعهد قطعه على نفسه بأن يظل وفياً لواجباته أميناً على رسالته.