بعد غياب أكثر من عقدين، كتب الله لي حضور (جرتق) أحد العرسان في بحري الجميلة. الجرتق كان في الهواء الطلق، والمكان عبق برائحة البخور والضريرة، وتغنت الحسان وأمهاتهن ب (الليلة العديل والزين)، وقام العريس ببخ عروسه باللبن رغم إشفاق الكثيرات على مكياجها. وشب الفرح ، وتعالت ضحكات السرور، وانحنت الكثير من رؤوس الصبيان للضريرة، وارتفعت الأيادي تفاعلا وتبشيرا. وجهت سؤالا (عبيطا) لزوجتي، التي طالما أرهقتها أسئلتي الساذجة، مستفسرا عن مكونات الضريرة! أظنني كنت شجاعا بالسؤال، فلو لم أسأل لما علمت بقية عمري أن الضريرة هي صندل مطحون، وممزوج بالمحلب والعطور .. والودك ! والأسئلة العبيطة، بالمناسبة، كثيرا ما تكون مهمة، وكثيرا ما تترتب عليها قرارات أهم، خذوا مثلا الهامبورغر، تلك الوجبة الأمريكية التي اجتاحت الدنيا، فلقد رأيت الناس يهجمون عليها بنهم وشراسة، لكن لم ألحظ عبيطا واحدا يسأل عن مكونات هذا الهامبورغر، وأي نوع من اللحم يحتويه، وأظن أنه لو حدث هذا الاستفسار ، لبارت سندويتشات الهامبورغر، ولعاد الكثيرون لساندويتشات الفول والطعمية صاغرين حامدين شاكرين ! لم يدهشني أن الصندل المسحون هو العنصر الأساس في الضريرة، لكن المفاجأة كانت في الودك الذي يمثل الأرضية التي ترقد عليها تلك الضريرة ! فالودك، إذن، ما زال يمارس دوره العبقري، وكنت أظنه قد انتحر مع (الكركار) الذي استعملته أمهاتنا غذاء للشعر، وكم كان شعرهن جميلا، ولم أسمع في ذاك الوقت بامرأة مصابة بقشرة، أو بتساقط، أو ب (صلعة)، وكان الكركار زهيدا وزكي الرائحة وقوي المفعول، قبل أن ينزوي، ويترك الساحة لكريمات الشعر وزيوته التي لا نعرف مكوناتها، فظهر تساقط الشعر بين الشابات، وضاعت فلوس الآباء والموظفات في سبيل إنقاذ شعر الإناث، بعد أن تهددته عوامل الطيران أدراج الرياح !! ابن خالة العريس، وهو يستعد أيضا لولوج القفص الذهبي، قال للحاضرين والحاضرات إنه يريد أن يقتصر عرسه على (الجرتق) فقط، فقد عاش سنواته الماضية في أمريكا، وأصابه (الطمام) من الزفاف الأفرنجي وطقوسه، في حين جعله الجرتق يعيد استكشاف العرس السوداني، ويحس بالكثير من خصوصيته وحميميته وسحره. فرحت والله بحضور المناسبة، وعشت أجواء الجرتق واقعا لا حلما، فقد كنت أظنه اندثر مع اندثار كل الأشياء الجميلة، فإذا به ماثل أمامي، يتغلغل بعطره في رئتي فيملؤها انتعاشا، ويسلب ناظري بما يحويه من أزياء وطقوس وجمال. هو يوم العديل والزين، فأبشر أيها العريس الهمام، واهنأ بعرس لن تعرف طقوسه أجيال قادمة، ولن تنحني رؤوسها لضريرة عطرة، حفرت يوما بعض أسرار السعادة داخل الوجدان السوداني.