بكم الدستة ؟! وجهت السؤال لبائع المنقة بسوق (الشهدا) الأمدرماني صباح أمس. تلفت الرجل يمينا ويسارا، ثم قال بصوت خفيض : بستة. ثم أردف محفزا : خذ دستتين بحداشر ! تجاوزته مسرعا، فالسؤال كان فضولا لا أكثر. ولم أكن متجها للمنزل، بل كنت في طريقي لأداء بعض الأعمال. أربع ساعات مرت، ثم قادتني قدماي ثانية لنفس الرجل. وجدته هذه المرة يتجادل مع عدد من الزبائن، وبنفس الفضول كررت سؤال الصباح : بكم الدستة ؟ هنا كانت المفاجأة ! نظر الرجل لمن حوله، وكانوا ممن ينتظرون إجابته، وقال : بأربعة، وخذ دستتين بسبعة !! بصراحة .. احترت، فلا أظن أن بورصة المنقة العالمية قد شهدت تقلبات حادة لهذه الدرجة، ولا أظن أن أربع ساعات كفيلة بإحداث كل ذلك التأرجح في الأسعار لفاكهة محلية بسوق شعبي ! المسألة كانت واضحة، فالرجل حاول الاستفتاح بي صباحا، منتهزا فرصة عدم وجود أحد من المفاصلين الأشاوس بالقرب منه، وسعى لتشتيت تفكيري الشارد أصلا، قافزا بي لعرض (الدستتين)، ليغيب الذهن عن الغلاء (الأصلي) لسعر الدستة!! التجارة شطارة، وأظن أن البائع يبيع لكل مشتر بما يتراءى له، فكنت ممن أحسن الظن بجيبي، أو، أساء الظن بعقلي، فعرض لي الدستة بستة، ثم نكص بعد السويعات التي مرت، وعرضها بأربعة، وكان بالإمكان الحصول على سعر أرخص لو كنت من أولئك الأشاوس ! طبعا لا لوم على الرجل، فهو في النهاية تاجر، والسوق تحكمه قوى شرائية وقوانين منافسة، وهو لا يستطيع المبالغة في الأسعار حتى لا تبور سلعته، كما لا يستطيع أن يبيع بأسعار لا (تخارج) معه ومع متطلباته الحياتية ! لكن الرجل مارس معي ، على أي حال، مراوغة قاسية، وأظنه راهن على احتمال (غفلة) تبدو سيماها على محياي ! ولو كان سؤالي جادا في الصباح لربما اشتريت بما قاله من سعر. هو تاجر في دنيا لا ترحم ، وبائع المنقة أو غيرها قد يكسب جولة مع مشتر (غر) لا يفكر كثيرا في السعر، لكن نفس البائع قد يخسر جولات وهو يشتري نعالا، أو قماش عمامة، أو جهاز موبايل من بائع أكثر قدرة على المراوغة والاستغلال ! دائرة عجيبة، لا أحد يعرف أين تبدأ وأين تنتهي، الكل يدور داخلها، وسيئ الحظ من لا يملك أداة لممارسة دور فيها، حيث يصبح نهبا لسهام السوق، في حين لا يملك سلعة أو مهنة يوجه من خلالها سهامه التي تحفظ توازنه أمام الآخرين. معادلات قاسية .. والبقاء فقط .. للشطار !