يدخل كذلك في معنى العدة الإعداد النفسي، ونقصد به إقناع الشخص نفسه أو إقناعه وتهيئته نفسياً بضرورة الحرب إذا دعا الداعي، فيما نطلق عليه اليوم الإيمان بالمبدأ. فإعداد النفس يأتي في المقام الأول، حيث لا يمكن للإنسان أن يعد أي شيء إذا لم يكن مستعداً في نفسه. ولذلك خاطب الله عز وجل المسلمين في مجال الجهاد خطاباً نفسياً يتوجه إلى مدى قناعاتهم بالجهاد. قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التوبة (38 - 39) قال العلامة الطاهر بن عاشورفي تفسيرها:(ومجموع قوله: {اثاقلتم إلى الأرض} تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلّبين للعُذر عن الجهاد كسلاً وجبناً بحال من يُطلب منه النهوض والخروج، فيقابل ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض، والتمكّن من القعود، فيأبى النهوض فضلاً عن السير. وقوله:(إلى الأرض)كلام موجه بديع لأنّ تباطؤهم عن الغزو، وتطلّبهم العذر، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى أرضكم ودياركم. والاستفهام في أرضيتم بالحياة الدنيا إنكاري توبيخي، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين). فالتثاقل إلى الأرض، والرضا بزهرة الحياة الدنيا شيئان نفسيان ناتجان عن عدم محاورة النفس وإقناعها بالإقدام وبذل النفس، وأن الآخرة خير وأبقي. بل إن الانسان إذا لم يهيء نفسه نفسياً فعليه أن لا يخرج مجاهداً حتى يهيئها. قال الدكتور محمد خير هيكل(سوري):(ومن هنا فقد ورد أن على الجبان ألا يغزو. وعلى ناقص الأهبة للقتال ألا يخرج مع المقاتلين. وذلك بقصد الحفاظ على كفاءة الجيش القتالية من أن يتطرق إليها ما ينال منها).ثم بعد ذلك أورد الدكتور هيكل بعض الأدلة ليبرهن بها على صحة هذا المذهب قائلاً:(جاء في سنن سعيد بن منصو ما يلي: (عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:(إذا خشي أحدكم من نفسه جبناً، فلا يغزُ) . وجاء فيها أيضاً -أي سنن سعيد بن منصور - عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى تبوك:(لايخرج معنا إلا مُقْوٍ -أي من تكون دابته قوية - فخرج رجل على بكر له صعب -أي جمل عسير الانقياد - فوقع به فمات -أي رمت به فكسرت عنقه -فقال الناس: الشهيد الشهيد. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً ينادي: ألا لا تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولايدخلها عاصي. قال مجاهد: لم أسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً أشد من هذا) أ.ه. دل كل ذلك على أنه يدخل في معنى العدة التهيؤ النفسي. وعلماء النفس في زماننا هذا يتحدثون كثيراً عن ممارسة اقناع النفس وأنها كالطفل يتم تربيتها كيفما يشاء الإنسان.. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ) ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:(فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي)وقول أبي بكر وقت الردة(ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي). وهذا يدل دلالة واضحة على أن الجهاد مسؤولية فردية تبدأ بإعداد النفس ثم ليصبح بعد ذلك مسؤولية جماعية. عدة الحرب إذاً كلمة كبيرة تكاد تستغرق كل الحياة البشرية، ولا حياة للناس إلا في ظل الأمن والسلم، ولا أمن ولاسلم إلا بالقوة التي تردع الظالم وتحق الحق وتبطل الباطل، ثم إنه لا قوة إلا عبر العدة سواءً كانت عتاداً حربياً أو إعداداً بشرياً. فالكل يدخل في مجال العُدة. وما بين إعداد الإنسان وإعداد الآلة أو العتاد الذي يحارب به الإنسان نجد أننا مُلزمون بحالة من الاستعداد الدائم الذي لا يعرف الغفلة ولا التفريط ، وإلا هجم العدو أو دس أو تجسس، أو دَرَس أوضاعنا كيفما استطاع. وهذا ما يجعل كلمة إعداد العدة كلمة كبيرة. فهي عصاة يجب أن تكون دائما مرفوعة وعين يجب أن تكون دائما مفتوحة. وإن كانت آية العدة في القرآن الكريم، واضحة بتوجيهاتها في قوله تعالى:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)فإن المعنى أو المطلوب تحديداً قد تغير اليوم شكله. لأن القوة بمعناها القديم قد تبدلت.، بل لقد أصبحت في عصرنا هذا كل يوم تأخذ شكلاً جديداً، تبعاً للتسابق العلمي الهائل الذي يطحن تحت اقدامه كل نائم أو غافل. فقوة اليوم ليست هي قوة الأمس، وخيل اليوم ورباطها غير خيل الأمس أو رباطها، مما استدعى أن نبحث بحثاً مستفيضاً في هذا المجال لنحدد نطاق القوة العصرية ومرتكزاتها لكي نتجهز بها في مجال إعداد العدة لأي حرب أو لأي سلم. لأنه - وكما أسلفنا -لاسلم بدون القوة. ومحاور القوة التي تنامت وتطورت في أيامنا هذي هي كما يلي : القوة الاقتصادية. القوة العسكرية .القوة التقنية . القوة الإعلامية . القوة الاجتماعية. فمن استكمل عناصر ومكونات هذه المحاور بفروعها المختلفة ، فقد استكمل عناصر البناء السليم لمعنى القوة التي هي أساس إعداد العدة للحرب. ويجمع كل هذه المحاور قوله تعالى:(وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ). قال العلامة ابن عاشور في تفسيرها :(فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظانّ تطرُّق العدوّ من المشركين إلى بلاد الإسلام، وفي مظان وجود جيش العدوّ وعُدته .والمرصد مكان الرَصْد. والرصْد : المراقبة وتتبع النظر. و(كلّ) مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها، تحذيراً للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدوّ منها، أو من التفريط في بعض ممارّ العدوّ فينطلق الأعداء آمنين فيستخفّوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أنّ المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة، فيُؤوَّل معنى(كل) هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد) نواصل لاحقاً.. الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة