كثيراً ما تعرضت في هذه الزاوية لذكر بعض الشخصيات وعددت نماذج من ممارستهم العملية، أو فهمهم الراقي أو أدائهم الجاذب في العمل السياسي أو خلقهم الرفيع وتعاملهم الجميل مع من يتعاملون معهم أو قيادتهم الحكيمة وإدارتهم السلسة فيمن يقودونهم.. ولو يذكر القارئ الكريم الذي اطلع على أسماء الذين تناولتهم يجد أنهم، وفي الغالب الأعم ،لا يتبوأون مواقع قيادية- سياسية أو تنفيذية- في الدولة، بل جميعهم كانوا في الهامش والظل في الدولة.. لئلا يصنفني الناس بأنني من حارقي البخور أو (كساري الثلج) كما يقولون، ولكنني أقصد دائماً أن أقدم هذه الشخصيات القومية لممارستهم المثالية كرموز ونماذج عسى أن يحذو حذوها الآخرون.. خدمة للأمة التي يتولون تصريف أمورها. الأخ الدكتور عبد الرحمن الخضر الذي تم انتخابه مؤخراً والياً لولاية الخرطوم، تعود معرفتي به لسنين عدداً حيث عايشته في الولاية الشمالية بدنقلا حينما تقلد هناك عدداً من المواقع الوزارية والسياسية في زمانٍ كانت فيه نظرة الإسلاميين المنظمين للآخرين نظرة إقصائية صارمة، يتعاملون حتى مع الذين تطوعوا وشاركوهم من داخل المؤسسات بكثير من الحذر يصل إلى حد إخفاء المعلومات التي تتعلق بمصالح الناس في الولاية.في ذلك الوقت وفي ذلك الجو كان الأخ د. عبد الرحمن ،وأنا أعلم التزامه الفكري الصارم ولكن بعقله المتسع وقلبه المفتوح وبثقته في نفسه التي لا تحدها حدود، كان كالطبيب المداوي يتعامل مع مجموعته بالنصح ومع الآخرين المقصودين بالتهميش بالأخوية وحسن التعامل والاستماع إليهم، حتى لاقى في ذلك ما لاقى من المتطرفين آنذاك، وإنني أشهد أنه ما تولى منصباً في الولاية الشمالية، وزارة أو قيادة سياسية، إلا وترك فيها بصمات أظنها ظلت تدفع العمل حتى يومنا هذا دون إضافة أو تجديد ، ثم تابعته والياً للقضارف وأظن أن إنجازاته التنموية والخدمية هناك لا ينكرها إلا مكابر.. ولكن أهم من ذلك أنه خلق نسيجاً مجتمعياً متجانساً سبق به الجميع عندما أشرك كل القوى السياسية في جميع المؤسسات الشعبية والدستورية والتنفيذية من أسفل الهرم في الولاية وحتى قمته في الوزارات المختلفة. وفي يوم الأربعاء الماضي حضرت احتفالاً مصغراً برئاسة الولاية أقامه العاملون «الجد الجد» (بدون وزراء ومستشارين ومعتمدين) تحدث فيه رئيس اتحاد العمال بالولاية ورئيس الهيئة الفرعية برئاسة الولاية وممثلة رابطة المرأة العاملة وتعاهدوا معه على العمل الجهاد واستكمال النهضة لشاملة بالولاية، وسلموه مكتوباً- عهداً وميثاقاً- بذلك.. ولكن ما حفزني لكتابة اليوم وفي هذه الزاوية التي بينت قصدي منها دائماً فيما أسلفت في بداية هذا المقال، ما حفزني هو حديث الأخ د. عبد الرحمن الوالي في ذلك الاحتفال المصغر، والذي أتمنى من الله تعالى أن يوفقهم- هو شخصياً ومن معه الأن من العاملين في الخدمة المدنية ومن يختارهم لاحقاً في مواقع القيادة والمسؤولية- أن يوفقهم الله ليترجموا ذلك الحديث إلى واقع يمشي بين الناس ويقدمونه نموذجاً للآخرين في ولايات السودان المختلفة، لاسيما وأن الخرطوم هي السودان المصغر الذي يشع منه وينداح الخير أو الشر لا قدر الله لكل أطراف السودان وأقاليمه. لقد أسعدني جداً عندما تحدث وشكر العاملين على المبادرة وعلى ما جاء منهم من تواثق وعهد ليؤدي كل في موقعه ما يليه من مسؤوليات خدمة للبلاد والعباد.. وقال: إن هذه المرحلة تختلف عن التكليف السابق حيث جاء هو من خلال الاختيار الشعبي الذي يضع المسؤولين أمام الله وأمام الناس، وزاد أن لابد أن نفصل تماماً بين العمل السياسي والأداء التنفيذي فلا فضل عندي لأحدكم إلا بعمله وأدائه، وألا يسود بيننا الرياء والتقرب للقيادات والحكام بمعسول الحديث، ولتعلموا أن شعاراتنا التي نرددها لا إله إلا الله والله أكبر- هي قيم إلهية عظيمة ليست حكراً لفئة أو جماعة بل هي منهاج كل مؤمن يأخذها بحقها ويتدبر معانيها السامية بالاعتقاد الكامل في الله وأنه هو النافع والضار وحده، وهو الحاكم الأوحد وكلنا من دونه أدوات يسخرها هو لخدمة خلقه عبادةً له سبحانه وتعالى، وهو الأكبر والرقيب علينا جميعاً حكاماً ومحكومين. وفي ختام حديثه للعاملين قال (لقد تم انتخابنا من المواطنين من خلال برنامجنا الذي قدمناه لهم في حملتنا الانتخابية، فلنتذكر دائماً أن الله هو الرقيب على صدقنا، وأن المواطن ينتظر أن نترجم له هذا البرنامج في الواقع المعاش اليومي.. فإنني أدعوكم في وزاراتكم ومؤسساتكم جميعاً أن تقفوا عند هذا البرنامج بكل الجد لاستخلاص ما يلي كل منكم مما ورد فيه وأن تعملوا تحت رقابة المولى عز وجل ورقابة ضمائركم في أن يقوم كل منكم بإنجاز ما يليه فلا العمود الآيل للسقوط ولا الحفرة التي تعرقل السير في الطرقات ولا اللمبات غير المضيئة في الشوارع أو أغطية المنهولات التي تضيع هي مسؤولية الوالي أو الوزير، كما يظن الناس وهم معذورون، فانظروا كم من الناس والمسؤولين والفنيين بين هذه الأشياء التي تحتاج للمعالجات السريعة وبين الوزير أو الوالي فانهضوا إخوتي بمسؤوليتكم، كل في موقعه ومستواه ولأننا تحملنا هذه المسؤولية جميعاً وأنا أو لكم فإنني أدعو من لا يأنس في نفسه كفاءةً، أو هو لأي سبب عاجز عن أداء واجبه أن يطلب إعفاءه وسوف نعفيه ونشكره على أمانته وخوفه من تحملها دون حقها ونمنحه مرتبه وهو في بيته،، وقال (لا بد أن نعلم أننا دخلنا مرحلة جديدة سنتبادل فيها السلطة تبادلاً سلمياً وعن طريق إرادة الجماهير مباشرة ولذلك يمكن لها أن تستوقفنا جميعاً وتسألنا عما قصرنا فيه، وهو سؤال لن يعفينا من سؤال الله سبحانه وتعالى). لخصت هذه العبارات والكلمات القيمات من رسالة طويلة تحدث بها دكتور عبد الرحمن في ذلك الاحتفال لا تسع هذه الزاوية لنقلها كما جاءت للقارئ، ولكنه اجتهاد قصدت منه تقديم هذا النموذج الذي مرة أخرى أتمنى أن يتمكن الأخ د. عبد الرحمن من تطبيقه على أرض الواقع، وليبدأ باختيار معاونيه من الوزراء والمساعدين من شخصيات قادرة ومؤهلة وتجرده لهذا الوطن لا بالحزبية الضيقة أو العلاقات الشخصية.. لأن من انتخبوك ينتظرون وهم يطالعون البرنامج المطروح وقبل ذلك فعين الله ساهرة لا تنام.