يُعد علم التحقيق الجنائي الأساس الذي يستند عليه ضباط التحقيق في الوصول إلى الحقيقة، وايجاد الوسائل العملية لجمع أدلة الاثبات على المتهم، وذلك من أجل تقديمها مع المتهم إلى الجهات القضائية، لكي ينال العقاب الذي يستحقه، ولا شك أن عمل ضابط التحقيق والبحث الجنائي يحتاج إلى خبرات علمية وفنية، تعاصر التقدم التقني في عصرنا هذا، مرتكزاً على أساسيات ومحاور لابد له من الاستناد عليها في مجال مكافحة الجريمة بشتى أنواعها وظروفها. من هنا بدأت أكتب في هذا الموضوع، لأن كثيراً من الزملاء العاملين في مجال التحقيق ومكافحة الجريمة، يلقون اللوم على الجهات القضائية، لأنهم يشعرون وفي بعض الأحيان، وبعد القبض على الجناة وإرسالهم إلى المحاكم المختصة، يتم تركهم وشأنهم، رغم الجهد الذي بذل في سبيل ملاحقة هؤلاء للقبض عليهم والتحقيق معهم. إلا إنني أعود وأذكر زملائي الذين يشعرون بمثل ذلك أن يعودوا إلى محاضر التحقيق، التي قاموا بارسالها للقضاء. ويتفحصوا من خلالها الإجراءات التي قاموا بها، ومدى مطابقتها للمشروعية، وتلمس الثغرات القانونية، التي أفسدت تلك الإجراءات، وبعد ذلك معرفة أدلة الاثبات الجنائي، التي تم جمعها وتم تضمينها إلى محضر التحقيق عند إرساله للقضاء، حتى يتسنى للقاضي الارتكاز عليها في تثبيت تلك التهمة على الجاني. وعليه وقبل أن نبدأ في مضمون هذا الموضوع المهام أجد لزاماً علينا أن نعرف الاثبات الجنائي، والذي هو ذلك العلم الذي يبحث في الأدلة الجنائية، وأنواعها، ومشروعيتها، وآثار عدم مشروعيتها، والبحث عنها ضمن طيات الجريمة حيث أن أهم ما يميز أدلة الاثبات الجنائي، عن أدلة الاثبات المدني، هو أن أدلة الاثبات الجنائي أدلة مطلقة، وغير مقيدة بأي نص قانوني، حيث لا يكتفي القاضي بما يقدم اليه من أدلة الاثبات بل عليه البحث عن الحقيقة بكافة الطرق المشروعة، حتى ولو لم تكن مقدمة إليه أو معروفة من خلال الدعوى الجنائية، باستثناء الأدلة المطلوبة في جريمة شريك الزوجة لاثبات جريمة الزنا، حيث جاءت في القانون الجنائي تلك الأدلة مقيدة، ولا تثبت الجريمة إلا بتوفير أدلة محددة قانوناً. إضافة إلى ذلك فإن القاضي الجنائي في الاثبات تحكمه قاعدتان، وهما تساند الأدلة بعضها لبعض أي أن الأدلة تكمل بعضها بعض.. أما القاعدة الثانية وهي مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي، وما يرتاح إليه ضميره، حيث أن حكم الإدانة في ذلك يجب أن يستند إلى دليل قاطع ويقيني، وليس ضمنياً أو تخمينياً، ومستمداً بطريقة مشروعة، بينما حكم البراءة لا يقتضي إلا أمراً واحداً، هو ألا يكون هناك دليل قاطع على الإدانة، إضافة إلى أنه لا يشترط في دليل البراءة مبدأ المشروعية، أي أن للمتهم كافة الطرق للبحث عن براءته، حتى لو اقتضى الأمر أن يحصل على دليل براءته بطريقة غير مشروعة، ومثال ذلك ما قضت به محكمة النقض المصرية ببراءة المتهم الذي حصل على دليل براءته، من خلال كسره لخزانة مسؤول عن العمل من أجل الحصول على سجل الحسابات، التي تثبت براءته في جريمة الاختلاس المقدمة ضده من صاحب العمل. هذا هو ما يتعلق بشرط أدلة الاثبات الجنائي أما إذا جئنا إلى استعراض أدلة الاثبات المدني، فنجد أن أهم شروطها هي أن تكون أدلة قانونية ومنصوصاً عليها، ( أي مقيدة وغير مطلقة)، حيث أن المشرع هو الذي تدخل، وحدد تلك الأدلة وبينَّها ولا يجوز للقاضي في القضايا المدنية أن ينظر في أدلة غير محددة أصلاً في القانون، حتى لو تمسك بها أحد الخصوم، كما أن القاضي المدني ملزم بما يقدم اليه من أدلة الاثبات، فلا يخرج عنها أو يبحث عن غيرها، إضافة إلى ذلك كله فإن القاضي المدني يقضي بناء على الأدلة المعروضة عليه، حتى لو كان غير مقتنع بها. وبناء على ذلك فسوف نتناول المحاور الرئيسية التي يركز عليها ضابط التحقيق والبحث الجنائي، عند علمه عن وجود جريمة، حيث لكل جريمة وجهة نظر ولضابط التحقيق ثلاثة محاور رئيسية والتي على أساسها نستطيع تقييم محاضرنا قبل إرسالها للجهات القضائية وهي: 1/ المحور الأول: الفعل المجرم أي اثبات أن الفعل الذي حصل يشكل جريمة بأركانها، وظروفها، وملابستها وهذا هو الهدف الأول من التحقيق الجنائي والذي يسعى ضابط الشرطة إلى اثباته أولاً، أي بمعنى آخر هل هناك نص قانوني لقانون العقوبات يجرم هذا الفعل؟ الأمر الذي بعده نستطيع أن نقرر هل نحن الآن أمام جريمة تتطلب منا الاستمرار في التحقيق أم أننا أمام فعل عادي لا يشكل جريمة، وبالتالي تنفي عملية الاستمرار بالتحقيق في موضوع القضية. 2/ المحور الثاني: من الجاني؟ فإذا ثبت لنا من خلال المحور الثاني والأساس في القضية موضوع تحقيقنا. 3/ المحور الثالث: ما وسائل الإثبات؟ إذا استطعنا أن نثبت أننا أمام فعل يشكل جريمة، ولا محالة، وتعرفنا على الجاني فاعل الجريمة فماهي أدلة الاثبات التي تدين هذا الجاني حتى نستطيع اقناع القضاء، بأن هذا الفاعل هو المرتكب لهذا الفعل، وهذه الأدلة الواجب جمعها لابد أن تتوفر فيها الشروط التالية: أ/ مبدأ المشروعية: أي أن تكون تلك الأدلة قد تم الحصول عليها بالطرق القانونية. ب/ تعلقها بالجريمة التي وقعت: أي أن تكون تلك الأدلة ضمن موضوع الجريمة وليس منفصلة عنها. ج/ تساندها فيما بينها واقتناع القاضي بها: أي أن تكون متساندة بعضها لبعض، ومرتبطة بشكل تحقق اقتناع القاضي بها. د/ أن تكون الأدلة يقينية: أي أدلة قاطعة وليست مجرد استنتاج أو اشتباه أو تخمين. وهذه المحاور الثلاثة والشروط الوارد عليها تعتبر أهداف التحقيق الجنائي والغاية الرئيسية من العملية التحقيقية بكاملها، وعليه فسوف نتناول هذه الأهداف بشئ من التفصيل. الهدف الأول: إثبات وقوع الجريمة بأركانها، وظروفها، وملابساتها، وذلك كما وردت في قانون العقوبات وإلا فلا جريمة، وبالتالي فلا يكون هناك تحقيق جنائي.