إن جميع الأجهزة الرسمية والشعبية في هذا الوقت مطالبة بالارتفاع لمستوى الأحلام والطموحات المشروعة التي تصب في خدمة هدف توفير الحياة الكريمة للأغلبية الكادحة، واعتمادها كهدف أساسي في أجندة العمل الوطني، بحيث لا تسبقه أهداف أخرى. نحن في بداية مرحلة جديدة بعد إجراء الانتخابات، فلابد أن نسأل أنفسنا عن ما الذي ينبغي علينا إنجازه خلال الأعوام المقبلة التي تشير كل الدلائل الى أنها سوف تشهد تحولاً بالغ الأهمية نحو إعادة صياغة أسلوب العمل الوطني الداخلي بما يلائم متطلبات وتحديات مرحلة جديدة تحتاج الي رؤى وأفكار جديدة. وإذا كانت مؤشرات المرحلة الجديدة قد برزت بوضوح في نجاح الانتخابات بدءاً من الاهتمام الشعبي، ووصولاً للنتيجة التي أسفرت عنها، فإن تأكيد القدرة على إنجاز الصياغة المطلوبة لأسلوب العمل الوطني الداخلي في الفترة المقبلة، سوف يرتبط الى حدٍ كبير بما سوف يجري خلال الأشهر المقبلة. أريد أن أقول إنه لا قيمة ولا معنى للحديث عن صياغة جديدة لأسلوب العمل الوطني الداخلي ما لم يكن ذلك مرتبطاً بالسلوك الشعبي الواضح والصريح الذي عبر عن نفسه بأمانة خلال تجربة الانتخابات من خلال صناديق الاقتراع، وأكد أن المصلحة العامة تسبق أي اعتبارات أخرى، وأن صوت الناخب لم يكن أسيراً لعصبيات قبلية أو ارتباطات مصلحية، وبالتالي لم يكن هناك أية مجال للاستلطاف أو الهوى أو الانفعال والغضب، لأن المسألة تتعلق بمستقبل العملية الديمقراطية في ظل تعددية حقيقية، وربما يكون ضرورياً أن أتوقف باستدراك ضروري، منعاً لأي لبس. وأقول إن ما أتحدث عنه ليس فقط مجرد دعوة لمراجعة مباديء العمل الوطني وإنما هو صيحة إلحاح حول ضرورة استنباط أسلوب جديد نمارس به عملنا الوطني.. والفارق كبير بين مباديء أساسية ارتضيناها منهجاً للحكم وتمثل استراتيجية لها صفة الثبات طالما ثبتت وتأكدت صحتها، وبين أسلوب للممارسة يحتاج بين الحين والآخر الى ضرورات المراجعة والتصحيح. وليس عيباً أن نمارس مع أنفسنا واجب نقد النفس والذات، وأن نقول صراحة إن أسلوب عملنا الوطني لم يرتقِ حتى الآن إلى مستوى الحلم والطموح الذي يتناسب مع عمق التحول الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي. ولعل من المفيد أن نطرح على أنفسنا سؤالاً إضافياً.. ما هي المجالات التي يستطيع عملنا الوطني أن يتوجه إليها على الفور لنحتل مكان الصدارة في قائمة الأولويات، بحيث يكون لها مردودها الملموس الذي يؤكد قدرة الوطن وعطاء المواطنين على بناء الجسر الضروري ما بين الحلم وتحقيق الحلم؟.. ومثل هذا السؤال ينبغي أن يكون ميداناً فسيحاً لاجتهادات متعددة، لأن أموراً كثيرة من قضايا الحاضر وتحديات المستقبل سوف تتوقف على جدية وتنوع هذه الاجتهادات بمنطق التفاعل في بوتقة المصلحة العامة وليس برغبة التصادم في ساحة المعارضة. وإذا جاز لي أن أحاول أن اجتهد فسوف أقول بداية إنه لا خلاف على أننا أنجزنا الكثير على مدى السنوات الأخيرة، وحققنا ما يشبه المعجزة في مجالات متعددة، ولعل في ذلك ما يشجع على اليقين بأن باستطاعتنا أن نضع كل أهدافنا المستقبلية موضع التنفيذ، ولكي تصب كلها في النهاية في خدمة هدف سياسي هو التنمية وزيادة الإنتاج.وعندما نتكلم عن التنمية، فإن من الضروري أن نتعرض لها بمفهوم التصور الشامل الذي يضمن لها إكمال جميع أبعادها، لأن من الخطأ أن يتصور أحد أن الاقتصاد وحده هو موضوع التنمية، ومن حسن الحظ أن هذا التصور الشامل يمثل ركيزة أساسية من ركائز البرنامج الانتخابي للرئيس.بوضوح شديد أقول إنه مع التسليم بأن الاستثمار والتنمية يمثلان قضية السودان بالنسبة لمستقبله، إلا أن ذلك ينبغي أن يظل في إطار الفهم الصحيح لمقومات نظام اقتصادي رشيد يلائم بيئتنا، ونستند في غاياته النهائية لهدفين رئيسيين، هما زيادة الإنتاج، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وعندما نتكلم عن التنمية والاستثمار، فإننا نتصور أن الهدف هو زيادة الإنتاج القومي ورفع مستوى المعيشة للمواطنين، وصحيح أن الهدفين يرتبطان ببعضهما البعض الى حدٍ كبير، ولكن ينبغي على رجال الأعمال والمستثمرين أن يعملوا على تضييق الفارق الرهيب بين ما يستهدفون تحقيقه من أرباح وهو حق حلال لهم، وبين ما يعود على المجتمع في شكل إسهام واضح في توفير الخدمات جنباً الى جنب مع الدولة، وفي إتاحة فرصة العمل للباحثين عنها. وليس بمقدورنا أن نتأخر أكثر من ذلك في حتمية استقدام وإنتاج التكنولوجيا الحديثة، ليس فقط من أجل زيادة الإنتاج، وإنما أيضاً من أجل تحسين نوعيته لكي يرضي أذواق المستهلكين في الداخل ويقدر على اقتحام أسواق التصدير في الخارج. ولست أخرج عن سياق ما أتحدث بشأنه عندما أنبه بكل الوضوح الى أن الإسراع بالخصخصة وتوسيع وتعميق جذورها بما يتلاءم مع متطلبات الاقتصاد الحر والقدرة التنافسية في عصر العولمة، ينبغي ألا يلغي خصوصية احتياجنا لاستمرار دور فاعل للدولة في إقامة ورعاية المشروعات العملاقة التي ما زالت أكبر من قدرة ورغبة المخاطرة في القطاع الخاص، فضلاً عن دوره ومسؤوليته في حل مشكلة البطالة التي تمثل أولوية متقدمة في أجندة العمل الوطني خلال السنوات المقبلة. أقول ذلك برغم أن منهج الحكم على مدى الأعوام الماضية لم يغفل للحظة أهمية وضع مباديء الطهارة وملاحقة الفساد وضرب الانحراف موضع التنفيذ كلما توافرت الأدلة الكافية التي يسمح بها غطاء سيادة القانون ودون الحاجة لأية إجراءات استثنائية في مواجهة بعض حالات الفساد الزاعقة. ولعل ذلك هو ما يزيد اليقين حول صحة احتياج المجتمع لتغيير متواصل يضمن استمرار الغايات ولا يحول دونه حائل في استحداث الوسائل الكفيلة بسد الثغرات والثقوب وتجديد دماء العمل الوطني والتخلص من تركة وأعباء احتكارية السلطة في بعض المواقع التي لم يكن غريباً أن يثبت فيها الفساد.