على مدى زمن طويل احتضنت الدوحة عاصمة قطر برعاية وإشراف مباشر من أميرها صاحب السمو الشيخ حمد وحكومته المفاوضات الطويلة المعقدة، بين الوفد الحكومي ووفد حركة العدل والمساواة من جهة، ووفد حركة العدالة والتنمية من جهة أخرى، بالإضافة للوسطاء ومعهم (المسهلين) وهم عدد من أبناء دارفور.. وقد أغدقت الحكومة القطرية أموالاً طائلة على المفاوضات، وأحسنت باكرام الأعداد الكبيرة المذكورة آنفاً، وآوتهم في أفخم فنادقها وتكفلت باعاشتهم والصرف عليهم بسخاء وبذخ، وأعلنت مكرمة أميرية بنكية مليارية ضخمة لتعمير دارفور، بعد توقيع الاتفاق النهائي، ولكن بكل أسف ينطبق على حركات التمرد المثل القائل(جو يساعدوه في حفر قبر أبيه دس المحافير)، إذ إن حركة العدل والمساواة تصر على ضرورة انخراط الحركات المسلحة الأخرى تحت لوائها ومظلتها في المفاوضات، بدعوى أنها هي وحدها التي تملك وجوداً عسكرياً ميدانياً، وأن غيرهم لا يملكون شيئاً يذكر في الميدان، ويرد عليهم الآخرون بأنها لا تمثل كل أهل دارفور بكل اثنياتهم وقبائلهم، ولا تملك ثقلاً قاعدياً وجماهيرياً، يجعلها تنفرد بالتحدث باسم أهل دارفور، وهي تعتمد فقط على فوهة البندقية بسند مادي ولوجستي من القوى الأجنبية، التي تستعمل الحركة كمخلب قط مسموم وتحركها كالأرجواز لتحقيق مراميها وأهدافها، وسبق أن جهزت لها حملة غزت بها أم درمان، وكان أقصى هدف تروم تلك القوى الأجنبية والقطرية المجاورة الوصول إليه في ذلك الوقت، هو استفزاز السودان وإحداث هزة معنوية وفرقعة إعلامية محلية وعالمية، وانتهت مهمة الحركة عند هذا الحد، بعد أدائها لهذا الدور القذر بالإنابة عن الآخرين، وكانت القوى الأجنبية الممولة تدرك أن حركة العدل والمساواة ليست باستطاعتها قلب نظام الحكم في السودان، وليس في مقدروها أن تحكم السودان لمدة يومين لعدم تأهيلها،(والفي البرعوام)، ومشت الحركة زهواً وأخذت تتيه دلاً كفرعون الذي كان يمشي متبختراً وهو عريان، وكل الذي فعلته الحركة أنها لطخت أيديها بدماء الأبرياء، الذين قتلتهم غيلة وغدراً دون ذنب جنوه وعند الله تجتمع الخصوم. وإن قائد حركة العدل والمساواة ينتمي لقبيلة الزغاوة وهي قبيلة كبيرة ذات ثلاثة فروع كبيرة، تتفرع عنها خشوم بيوت عديدة، والقبيلة تعيش حياتها الطبيعية، ولكثير من أبنائها أوضاع متميزة في دنيا المال والتجارة بكدهم واجتهادهم، وشغل ويشغل الكثيرون من أبناء القبيلة مواقع تشريعية وتنفيذية، ولهم مجلس شورى على رأسه عالم جليل، كان يعمل مديراً لجامعة الخرطوم، ورئيس حركة العدل والمساواة ليس زعيماً للقبيلة، وليس مفوضاً ليتحدث باسمها، وليس من حقه اتخاذ هذه القبيلة الكبيرة سلماً لتحقيق طموحاته الذاتية، ودارفور أيضاً تكتظ بالقبائل الأخرى، ولم يفوضه أحد ليتحدث باسمها أو يكون وصياً عليها. وبعد إجراء الانتخابات فإن دارفور تشهد الآن واقعاً جديداً، ولكل ولاية عدد من النواب المنتخبين بالمجلس الوطني الاتحادي، وعضوين بمجلس الولايات، ولكل ولاية مجلس تشريعي منتخب، ووالٍ منتخب، يختار حكومة شرعية، ولا توجد أقاليم في نظام الحكم المطبق في الشمال، بل توجد ولايات تتبع رأساً للمركز، وينطبق على ولايات دارفور ما ينبطق عل غيرها، ولا يمكن إقامة إقليم هناك، إلا إذا أقيمت اقاليم في كل أنحاء السودان بلا استثناء. وإن الشعب السوداني يأمل أن تستأنف المفاوضات بعد تجاوز العُقد النفسية والتعقيدات، والحد من الأوهام والطموحات الذاتية الزائدة عن الحد، والوصول لاتفاقية سلام يتم بموجبها ايقاف نزيف الدم، ووقف الحرب، ورمي السلاح، واستيعاب المقاتلين في مهنهم السابقةن وتوفير الحياة الحرة الكريمة لهم، وهم ليسوا بجنود محترفين نظاميين، ونأمل أن تتم بموجب هذه الاتفاقية تصفية المعسكرات وإعادة النازحين واللاجئين لقراهم وتعميرها، وأن المتمردين هم سبب النزوح؛ لأنهم تخلو عن المروءة والنخوة، وحملوا السلاح وزعزعوا الأمن، وبعد كل غارة كانوا يحتمون بالقرى ويتخذونها ساتراً وجواراً آمناً، وأدى هذا لاختلاط الحابل بالنابل، ونتجت عن ذلك نتائج وخيمة ومآسٍ وبيلة وكُثر، وتمدد الفاقد التربوي، وهذا يؤدي لضياع جيل كامل إذا لم تسارع كل الأطراف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهناك أشياء كثيرة لا يتسع المجال لذكرها تحتاج لمعالجات، وتحتاج حكومات ولايات دارفور المنتخبة لدعم مالي وميزانايات استثنائية مدعومة من الحكومة الاتحادية، مع تجنب قسط من عائد النفط لتعمير ما دمرته الحرب في دارفور. وتوجد الآن بدارفور شرعية دستورية وهذا لا يمنع أن تخصص بعض المواقع الوزارية الاتحادية والولائية لقادة حركات التمرد، مع منحهم بعض الوظائف التنفذية في المؤسسات والمعتمديات، إذا وقعوا على اتفاقية السلام.. وعليهم بعد ذلك أن يسجلوا تنظيماتهم السياسية وأحزابهم، ويعملوا وسط الجماهير ويستعدوا لخوض الانتخابات القادمة في عام 2014، ولا سبيل لهم غير ذلك.. أما إذا سعوا لالغاء كل الواقع الموجود بجرة قلم، وأرادو أن يهبطوا من السماء (بالبرشوت) ليعتلوا موقع نائب رئيس الجمهورية بفوهة البندقية، فإنهم يحلمون بالمحال، ولكن من حقهم إذا انتظروا الانتخابات القادمة أن يترشحوا حتى لموقع رئيس الجمهورية، وهذا حق دستوري مكفول للجميع. وقد خلقت الآلة الإعلامية الغربية الاخطبوطية من الحبة قبة، وجعلت دارفور في السنوات القليلة المنصرمة مضغة في كل الألسن، وأصبحت تتصدر نشرات الأخبار في الإذاعات والفضائيات، بل زاود بها مرشحو الرئاسة في الانتخابات الأمريكية في العامين الماضيين، ولكن بدا واضحاً للجميع أن هذا الهوس والفوران الأندروسي المفتعل أخذ يهدأ، وقد خلقت تلك الآلة الإعلامية هالات خادعة كاذبة حول بعض الشباب الذين يقودون التمرد، وجعلتهم يعيشون في أوهام، رغم أن بعضهم سياسيون مبتدئون لازالوا في (ألف- باء- تا- ثاء) سياسية، وقدراتهم محدودة، وبعضهم كانوا من الكوادر الوسيطة في الحركة الإسلامية، وقفزت بهم فوق رصفائهم وبوأتهم مناصب وزارية ولائية، وعز عليهم بعد ذلك أن يتم فطامهم، بعد أن ذاقوا الرضاعة من السلطة، ولم يحتملوا أن يكونوا في استراحة محارب وأن هؤلاء وأولئك يعانون من داء تضخيم الذات. إن مشكلة دارفور تعالج بتضافر جهود السلطتين الاتحادية والولائية وتضافر جهود الشعب السوداني، والتفاف الرأي العام الدارفوري خاصة والسوداني قاطبة حول هذه القضية، مع شحذ الهمم والطاقات واستقطاب دعم الخيرين في العالم، وينبغي أن تجد الحكومات الولائية في دارفور دعماً اتحادياً استثنائياً. وإن البندقية لا يمكن أن تكون هي الوسيلة للوصول للأهداف، والقول بإن حركة العدل والمساواة تحمل السلاح الآن من أجل غايات وأهداف وطنية، هو قول هراء، وهي بطريقتها هذه تدمر دارفور ولا تعمرها، والمؤسف أنها ظلت تقوم بغارات عشوائية في كردفان تتم فيها عمليات نهب وسلب وقتل وترويع للآمنين، ونرجو أن يؤوب خليل ومن معه لصوت العقل حقناً للدماء، لأن السلطة الحاكمة إذا قررت مضطرة في نهاية المطاف سحقهم، فإن هذا قد يعمل ويصيب بالضرر بعض الآمنين.