يكذب الكاتب، حين يقول إنه راض عن كل ما يكتب. فالكتابة عمل عموده الفكرة، والفكرة مادة هلامية في معظم الأحيان، ولا تتشكل جسما إلا أثناء عملية التخليق، وهي العملية التي تتم بالكتابة . سألتني قارئة عن تجربتي، فقلت إنني أكتب أحيانا بالماكينة القابعة داخل مخي، حيث يكون قلبي متوقفا عن البوح .. لحين إشعار آخر ! والكتابة التي تأتي من (الماكينة) قد تكون ملتزمة بالجانب الحرفي المحض، فتحمل الفكرة والهدف والمضمون، لكنها تكون بلا روح، وتختفي فيها (اللمسة)، ويتوارى خلف غيومها الوهج الذي يخلب اللب ! الزميلة الكاتبة المتألقة (زينب السعيد) .. انفعلت حين قلت ذات مرة إنني أوشكت على رمي أحد الأعمدة في القمامة .. فقالت محتجة إن أكثر المواد بريقا هي تلك التي تحدثنا أنفسنا بوأدها، ونصحتني بنضج يفوق عمرها أن أتريث كثيرا قبل قرارات النفي .. والإحالة لصندوق القمامة !! والكاتب مثل المغني، قد يخرج من سرادق العزاء في عزيز لديه، ويتوجه لمكان احتفال ليغني فيه .. إيفاءً بالالتزام !! والكاتب الراتب، أي الذي يكتب بانتظام متفق عليه .. مغصوب على التزامه، وعلى تجاوز آلامه، وأحزانه، ومشاعره الخاصة، ليكون (سوبرمان) .. قادرا على الخروج القاسي من حالاته الشعورية المتلاطمة .. ليتقمص حالة شعورية أخرى، ينزف خلالها ، ويتجاوز بعملية قيصرية .. كل تفاصيل بوحه العميق .. الخاص بقلبه المسكين !! أحد الأصدقاء .. قال إنه لا يقرأ أخبار السياسة، ولا يحب الذين يكتبون في مجالها، ولما سألته عن السبب، قال : السياسة بلا مشاعر .. أنا لا أدفع جنيها للصحيفة كي أفقع كبدي .. فالدنيا مليئة بما يكفي .. إغاظة .. ونكدا !! الرجل كان يقصد أنه يريد ما يخرجه من غيظه، ويبدو أن الأعمدة الاجتماعية تصادف مزاجه وهواه، وهذا رأيه، لكنه لا يعرف، طبعا، أن الكاتب السياسي، أو الاجتماعي، أو الفني، أو الرياضي .. كلهم يكابدون .. ويدوسون على وجعهم، ليكونوا (على الخط) .. مع قارئ ملول .. وشاطر .. ومزاجي .. ولا يعرف أحد أبدا ما يعجبه وما لا يعجبه !! والكاتب، بالمناسبة، هو قارئ في الأساس، ويقوم بإخضاع الكثير مما يكتب للتقييم، ولذلك لا أظن أن هناك من يسجل رضاه المطلق عن نتاجه، ولسوء الحظ، ليس هناك (قالب) نهائي وقطعي .. يمكن تصنيفه بأنه المفتاح المضمون لقلب القارئ، ولو كان هذا القالب موجودا، لهرولنا له جميعا .. لأجل عيون قرائنا الأعزاء .. ومعهم قارئاتنا العزيزات ! الله يعين !