ما يختلط على الفهم العام هذه الأيام, أن يرى البعض في خطوات التغيير والإصلاح والتحديث, التي تتسارع علي أرض السودان, أنها خطوات مرحلية تستهدف تفادي عاصفة الفرض الإصلاحي من الخارج, التي تنطلق رياحها من الأجندة الأمريكية.. والسودان قد أعلن - ومنذ اللحظة الأولي - موقفه الواضح والصريح من كل هذه الأطروحات, ليس لأن السودان يرفض الإصلاح وإنما شعب السودان- باستثناء قلة محدودة- قال كلمته بوضوح, بأنه ليس مستعداً لدخول جنة الإصلاح الأمريكي, وأن الإصلاح يجب أن يتم من داخل مجتمعاته وبإرادة ذاتية خالصة . ولست أجنح إلى المبالغة, عندما أقول إن مهمة إعادة الثقة بين أجهزة الدولة والمجتمع ينبغي أن تسبق كل المهام الأخرى, لأنه مع غيبة جسور الثقة سوف يكون من المستحيل أن يشعر الناس بأي انجاز مهما كبر حجمه ومهما تعاظم أثره. إن إعادة بناء جسور الثقة بين الدولة والمجتمع, هو السبيل الوحيد لتيسير مهمة العبور من أوضاع نحلم جميعاً بتغييرها، إلي أوضاع جديدة, من أجل إعادة صياغة مسيرة العمل الوطني باتجاه الحلول الجذرية للمشكلات الجوهرية, التي تمس الحياة المعيشية للشعب من ناحية, والطموحات المشروعة من أجل اللحاق بالعصر وأدواته من ناحية أخري. إنني أتصور مناخاً جديداً تسعي الحكومة إلي إرساء قواعده, من أجل جذب انتباه المجتمع ككل باتجاه المستقبل, وإنهاء مرحلة الالتفات إلي الماضي, لأن معظم أسباب ضعفنا وتعثر خطانا وعجزنا عن بلوغ الدرجة اللائقة من العلم والمعرفة, يرجع إلي وجود من يريدون استمرار التشبث بالماضي دون إدراك, لأن هذا الماضي فضلاً عن أن صلاحيته قد انتهت، فإن الاستفادة بدروسه ليست مجرد ترديد للشعارات, وإنما بتوظيف هذه الدروس وفق شروط الحاضر ومعطياته. أريد أن أقول بوضوح, إنه قد آن الأوان لكي يري الناس في السودان حكومة قوية وقادرة ومستنيرة, تفرض هيبتها دون تجاوزات, وتفصح عن نياتها وطموحاتها دون إسراف, وتتجه- وبأقصى سرعة ممكنة- لكي تجعل من التغيير الوزاري نقطة بداية حقيقية وجذرية باتجاه التغيير الشامل. نعم لقد آن الأوان لكي نرسخ دعائم دولة الحق والقانون, التي تستظل بشمس الحرية، وترفرف عليها أعلام الديمقراطية, وتسود ربوعها بذور ونباتات القيم الإنسانية الرفيعة، التي تعلي قيمة الإنسان، وتعزز روح الانتماء, وتشيع أجواء الرغبة في التسابق نحو الإبداع في جميع المجالات. إن المسألة أكبر من أن ينظر إليها بمنظار مادي, يرتكز إلي مجرد الأخذ بهذه النظرية أو تلك، في التعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية, التي لم تعد هاجساً يؤرقنا وحدنا, وإنما باتت هاجساً يؤرق الجميع بما في ذلك الدول الغنية والمتقدمة. لعلي أكون أكثر وضوحاً وأقول, علي سبيل المثال.. إن كثيرين توهموا أن مجرد الانتقال باقتصادنا من مرحلة الاقتصاد الموجه, إلي آفاق آليات السوق, سوف يؤدي تلقائياً إلى قفزة اقتصادية تضعنا في صفوف النمو الاقتصادية العملاقة, ولكن التجربة أثبتت أن المسألة أكبر وأعمق من مجرد الانتقال من نظام إلى نظام, ومن الأخذ بنظرية مكان نظرية أخرى. إن حرية السوق- مثلاً- لا يمكن لها أن تلبي المتطلبات التحتية في أي مجتمع, ما لم تكن هذه الحرية الاقتصادية جزءاً من مناخ أرحب, لا أقصد به مناخ الحرية السياسية فقط، وإنما أقصد به حرية الفرد في الأداء, بعيداً عن قيود العمل الإلزامي التي جعلت من أداء العمل شيئاً أشبه بأداء العقوبة. وربما يكون ذلك مدخلي عندما أريد أن أتحدث عن ثقافة العمل في السودان, وضرورة تغييرها لكي يصبح العمل واجباً مثلما هو حق, وعطاء مثلما هو أخذ, وحساباً يخضع لكل معايير الثواب والعقاب, التي أخذت بها الدول المتقدمة منذ سنوات بعيدة. وإذا كان أحد أهم عناوين التكليف الوزاري هو عنوان توفير فرص العمل لكل سوداني قادر على العطاء, فإنه ينبغي إضافة عنوان آخر يقول .. إعطاء أولوية فرص العمل لمن هم أقدر علي الالتزام والانضباط وأداء الواجب بأعلى درجات الأمانة والمسئولية. وليس معني ذلك أنني أدعو إلي العودة إلي الوراء, وتقليص المزايا والحقوق التي حصلت عليها الطبقة العاملة في السودان بكل مستوياتها, بدءاً من الخفير ووصولاً إلي المدير, ولكنني أدعو إلى توازن دقيق بين الحقوق والواجبات, فكل حق لابد أن يقابله واجب, وحق العمل يجب أن يقابله واجب الأداء، وليس مجرد تأدية الواجب! ، ولا أظن أن أحداً يمكن أن يجادل في أن طاقة العمل الفعلية في السودان تقل كثيراً عن طاقة العمل الرقمية, إلى الحد الذي تجزم فيه بعض الدراسات العلمية المحايدة, بأن طاقة العمل الفعلية في السودان أقل من عشرة في المائة من قوة العمل البشرية في أغلب مواقع العمل والإنتاج.وربما يقول قائل- والقول في ظاهره صحيح- بأن عصر التكنولوجيا فرض واقعاً جديداً يؤدي إلى حتمية الاستغناء عن العمالة الكثيفة, وإننا في السودان نحاول التقليل من آثار هذا الواقع الجديد، والحيلولة دون تراكم البطالة بإبقاء نسبة كبيرة من العمالة تفوق حاجة العمل, كأحد استحقاقات الالتزام بالبعد الاجتماعي من جانب الدولة. ولكن الذين يقولون بذلك, يتجاهلون حقيقة موازية تقول بأن التكنولوجيا الحديثة قادرة على توفير فرص جديدة للعمل, بشرط أن تكون هذه العمالة متعلمة ومتدربة وقادرة على تدوير وتشغيل الآلات الحديثة... وتلك في اعتقادي أبرز المهام التي يمكن أن تنجزها الحكومة. ثم أسارع إلى القول- قبل أن أختم حديثي- .. إن الثورة التكنولوجية ليست خطراً علي قوي العمل البشرية إلا بالنسبة للذين لا يفهمون متطلبات واستحقاقات هذه الثورة, وأهم هذه المطالب والاستحقاقات يتمثل في إعطاء التدريب، والتأهيل للعمالة، بنفس الاعتمادات المالية التي يجري تخصيصها لاستيراد التكنولوجيا.. وخلاصة القول أن الكلام سهل والتنفيذ هو المحك, وهو الفيصل وأن الذي يده في الماء- من حملة الأقلام مثلي- ليس كمن أيديهم في النار، ممن يتحملون المسئوليات الجسام على مستوى الرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء.