قد ظللنا نتابع تحركات الإدارة الأمريكية وروابيها، الرامية لتفتيت وحدة السودان. اسمحوا لي بأن أتوجه لكم ودون سابق معرفة شخصية، بهذا المقال الصريح في هذا الظرف الدقيق والمصيري للسودان، والذي يستوجب منا الصراحة والمصارحة.. ولا أكشف لكم سراً إذا قلت إن السودان لا يملك القدرة علي إرغام الولاياتالمتحدةالأمريكية علي تبني سياسات بعينها- وكذلك هي لا تملك أن ترغم السودان علي قبول سياساتها في المنطقة- وهنا يظهر الخلاف ويتجلي الاختلاف.قد لا يعجب حديثي بعض الناس، ولكن واجبنا أن نقوله نظراً لدقة الوضع ونظراً للأفخاخ التي قد تحاول الإدارة الأمريكية زرعها لزعزعة وحدة السودان وإظهارنا شعباً منقسماً على نفسه يستحيل أن يتعايش، فهل نسقط في الفخ الأمريكي أم نكون على مستوى المسؤولية وآمال الشعب بوحدته واستقراره. لقد رأينا كيف بالغت الإدارة الأمريكية في وصف التهديدات المزعومة في العراق- مستعينة في ذلك بمقدرات وكالة مخابراتها في صنع الأخطار والتعامل معها في آن واحد- وهذا خير دليل على أنه باسم الديمقراطية الموعودة لن تذوق شعوب المنطقة أي نوع من الحرية والأمن- وإنما ستذوق المهانة والإذلال تحت ستار كثيف من القدرة الهائلة على المراوغة والتلاعب بالألفاظ والكذب والخداع- فالذي تمارسه السياسة الأمريكية تجاه السودان لا يبتعد كثيراً عن منهج الحرب النفسية. وإذا كانت الإدارة الأمريكية ترغب حقاً في إرساء الديمقراطية والإصلاح السياسي في العالم كما تدعى، فهل من مبرر معقول لجملة الانتهاكات الفظيعة والمخجلة التي مورست بحق العراقيين، وهل من تفسير للقتل العشوائي وهتك الأعراض وسحق كرامة المواطنين وإذلالهم وإهانة آدميتهم بكل وقاحة وقبح؟ وربما يكون مفيداً وضرورياً أن نلقي نظرة فاحصة ومتأنية حول بعض جوانب السلوك الأمريكي في الساحة الدولية والذي أصبح مزيجاً من المبالغة في حجم الأخطار والتهديدات من ناحية، والمبالغة في استخدام القوة باسم ضرورات درء هذه الأخطار من ناحية أخرى! فمن الخطأ والخطر معاً أن يتوهم أحد في السودان أن الإدارة الأمريكية ستغير جذرياً سياساتها تجاه السودان، ويتجاهل مرحلة أحادية القوة التي كانت سيفاً مسلطاً على رقابنا ورقاب غيرنا قد ولت إلى غير رجعة، وأن مرحلة جديدة ستبدأ وسيتوقف حجم التغيير الإيجابي فيها على حجم ما نبذله من جهدٍ واعٍ ومدروس. وعلى أي حال، لقد أصبحت تلك الوسائل مكشوفة ومعروفة، وإننا واثقون من أن مناوراتهم البهلوانية لن تفيدهم، لأن السودان وشعبه المتحرر من سلطة الوصاية يقوم بدوره على أكمل وجه متحملاً مسؤوليته باسم الحق والحقيقة.إننا نعيش عصراً يختلف عن كل ما سبقه من عصور، فلا أحد يملك ترف الانكفاء علي النفس والذات، ولا يستطيع أن يزعم القدرة علي تحقيق الاكتفاء الذاتي وعدم الاحتياج للآخرين، ومن هنا لابد لنا- جمعياً شعباً وحكومةً- أن نقرأ جيداً مجمل المتغيرات الدولية ونصل إلي قناعة أن ظروف العصر لم تعد تسمح لنا أو لغيرنا باستمرار التعامل مع القضايا الأساسية بصورة تقليدية جامدة من إرث ممارسات وعقائد الماضي أو نتيجة لجمود الفكر عند مباديء ونظريات أكاديمية تجاوزتها متغيرات العصر بمراحله.فلنقل جميعاً نعم للنقد- ونعم للكلمة الحُرة التي تسلط الضوء علي كل ما هو سلبي وخبيث ومسيء- ونعم لمواصلة الدعوة لضرورة احترام القانون وتأكيد هيبة الدولة، ولكن لابد أن يصاحب ذلك ألف نعم لكلمات تقدير وتشجيع وتحفيز لكل جوانب العمل الصادق والعطاء الحقيقي والإنجاز الواعد، وما أكثر هذه الجوانب فوق أرض السودان الفسيحة التي نظلمها لو أننا حصرناها في بعض التجاوزات المستفزة والسلوكيات المرفوضة! وهذا يعني أن الخطر الذي نواجهه في هذه المرحلة، هو مرحلي ويتطلب منا وعياً كاملاً ورصاً للصفوف كي لا نقع في فخ التفرقة، حيث يحاول أعداؤنا نسف وحدتنا أرضاً وشعباً، بوسائل عدة منها جهودهم الرامية لتفتيت السودان ووحدته وسيادته وسلامة أراضيه! ونحن في حاجة اليوم إلى تعطيل أي فتيل فتنة يستفيد منه كل من يريد أن يصطاد في الماء العكر وأن ينصب الأفخاخ، وعلينا أن نحصّن أنفسنا كي لا تتحول وحدتنا إلى كابوس التفتيت.. وتوزع أرضنا حصصاً لهذا الطرف أو ذاك! وعلى هذا الأساس فإن مسؤوليتنا هي أن نساعد الدولة من خلال إيجاد أجواء إيجابية تعينها على التحرك وتقطع الاصطياد، وإثارة أية بلبلة سياسية وأمنية يدفع ثمنها جميع السودانيين دون استثناء- بالنسبة لناس جوه، أما ناس بره "خارج السودان" هم اللاحقون- ! ومن أجل متابعة المشكلات المختلفة، فإننا ندعو جميع الفرقاء إلى هدنة على أن تكون مؤقتة، كي لا يبقى هذا الملف معلقاً، وسلعة ابتزازية وسيفاً مسلطاً فوق رأس السودانيين. وللتذكر.. لا نريد جمهورية مفتتة، ولا جمهورية (الوصاية)، ولا نريد فتح دويلات على حساب الشعب السوداني ودولته، ولا نريد أن ينصب أحد نفسه وصياً علينا!.. وألاَّ تظن الدولة أن الوقت قد حان لوضع حد نهائي لهذه التفلتات والمزايدات التي لن تؤدي إلاَّ لحالة من التشنج والتطرّف من هنا وهناك قد يوصلنا إلى هاوية التفتيت والتقسيم! وإيانا أن نقلل من جدية استمرار وجود فلول تابعة لمن لا يريد للسودان أن يكون واحداً، سيداً، حُراً، مستقلاً، ولا نستغرب أن يعمل هذا (المضرر) كل ما في وسعه لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ليعود السودان إلى ساعاته السوداء! والسودان بإمكانه استناداً لسابق تجاربه مع الأزمات والظروف الاستثنائية الطارئة أن يستوعب ما يجري حوله، وأن يضمن ثبات أمنه واستقراره من خلال سياسات رشيدة من ناحية، ومن خلال أطر دستورية وقانونية واضحة من ناحية أخرى. فالمطلوب- ونكررها للمرة الألف- أن نثبت قدرتنا على تجاوز هذا الظرف الاستثنائي- الذي فرضته متغيرات عالمية اعتماداً على العقل الذي يقدر على قراءة لغة العصر من ناحية- ومن خلال قدرة موازية لا تسمح بإشاعة أجواء اليأس والإحباط من ناحية أخرى. ونقول لجميع(الوطاويط)، بأنهم مهما فعلوا لترهيب الشعب السوداني أو عرقلة استقراره ووحدته أرضاً وشعباً، فإنه لن يجديهم، لأن نهايتهم باتت قريبة وقريبة جداً إن شاء الله.وخلاصة القول.. نرجو أن تكون قد وصلت الرسالة، ونتمنى أن يعي كل سوداني غيور وحريص على وطنه، أن المطلوب أولاً وأخيراً وفاق وطني حقيقي ينطلق من الاعتراف بالآخر واحترامه والتعاطي معه كشريك حقيقي في ورشة بناء ووحدة الوطن!