لو أن أحد المنشدين تجرأ اليوم، ودخل صحن المسجد ورفع عقيرته بأنشاد أبيات من الشعر، لقامت الدنيا ولم تقعد.. ووجهت له تهمة الفساد والإفساد، والاستهتار بالمقدسات.. وقد حدث ذلك في مراحل مختلفة من تاريخ الإسلام، وكان هناك دائماً من دافع عن الإنشاد، متذرعاً بحجج قوية لا يمكن نقضها.. فمن ذلك ما رواه التابعي الجليل، سعيد بن المسيب، حيث قال: مرَّ أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب، رضي الله عنه في المسجد يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة وحسان يُنشد، فلحِظَه عمر أي نظر إليه نظرة إنكار، فقال: كنت أُنشد، وفيه من هو خير منك يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أُنشِدُك بالله.. أسمعتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدُس ؟«قال: نعم رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة. وأول الحديث يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أيده بروح القدس». ورواه مسلم في صحيحه في باب فضائل حسان بن ثابت. وعن عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن الله يؤيد حسانَ برُوح القدُس ما نافح أو فاخر عني» رواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة وأول الحديث: «إن روح القدس...» وفي ذات السياق، ذكر الإمام الشاطبي في كتابه «الاعتصام»:(أن أبا الحسن القرافي الصوفي يروي عن الحسن البصري رحمه الله: أن قوماً أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماماً إذا فرغ من صلاته تغنَّى، فقال عمر رضي الله عنه: مَنْ هو ؟ فذُكر الرجل، فقال: قوموا بنا إليه، فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تجسسنا عليه أمره، قال: فقام عمر رضي الله عنه مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا الرجل وهو في المسجد، فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال: يا أمير المؤمنين ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟ إن كانت الحاجة لنا، كنا أحق بذلك منك أن نأْتيك، وإن كانت الحاجة لله، فأحق مَنْ عظمناه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: ويحك بلغني عنك أمر ساءني. قال: وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال: أَتَتَمجَّن في عبادتك ؟! قال: لا يا أمير المؤمنين، لكنها عظة أعظ بها نفسي. قال عمر: قلْها فإن كان كلاماً حسناً قلتُه معك، وإن كان قبيحاً نهيتُك عنه فقال: وفؤادي كلما عاتبْتُه في مدى الهجران يبغي تعبي لا أُراه الدهرَ إلا لاهياً في تماديه فقد برَّحَ بي يا قرينَ السوء ما هذا الصِّبّا فَنِيَ العمرُ كذا في اللعب وشباب بَانَ عني فمضى قبل أن أقضي منه أربي ما أُرَجِّي بعده إلا الفَنا ضيَّقَ الشيبُ عليَّ مطلبي ويْحَ نفسي لا أراها أبداً في جميلٍ لا ولا في أدب نفسُ لا كنتِ ولا كان الهوى راقبي المولى وخافي وارهبي فقال عمر رضي الله عنه: نفسُ لا كنتِ ولا كان الهوى راقبي المولى وخافي وارهبي ثم قال عمر رضي الله عنه: على هذا فليغنِّ مَنْ غنَّى) الاعتصام للإمام الشاطبي ج1/ص220 وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: ( الشعر كلام ؛ فحَسَنُه حَسَنٌ، وقبيحه قبيح ) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (أخرج البخاري في «الأدب المفرد» من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً بلفظ: «الشعر بمنزلة الكلام فحَسَنُه كحَسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام» وسنده ضعيف وأخرجه الطبراني. وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي رحمه الله، واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي. «فتح الباري في شرح صحيح البخاري» للمحدث ابن حجر العسقلاني ج10/ص443 وقال العلامة النووي: (لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحاً للنبوة أو الإسلام، أو كان حكمة أو في مكارم الأخلاق، أو الزهد ونحو ذلك من أنواع الخير) شرح صحيح مسلم« للإمام النووي كتاب فضائل الصحابة ج16/ص45 وقال أبو بكر ابن العربي المالكي شارح سنن الترمذي: لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي» ج2/ص276