قالت لي زميلة مرة وهي ضجرة بطول المأزق الذي وقع فيه لبنان بعد مقتل رئيس الوزراء رفيق الحريري وحرمها زيارة مدينتها الجميلة بيروت: «ماذا يعني؟ نموت نحن كلنا لأن الحريري مات؟»، قلت لها إذا وافقت على موت إنسان شهد العالم كله على مقتله السافر، فسيأتي يوم ويوافق آخرون على موتك أنت أيضاً، وسيكون مبررهم أيضاً أنهم يريدون أن يهنأوا بحياتهم، ولأنهم يرون أن حياتهم أهم من حياتك. هذه الحكمة التي عجزت الحياة أن تعلمنا إياها «أن الحياة سلف ودين» قيلت بكل الأشكال، قالها الله سبحانه في شرائعه، وقالها الحكماء والأجداد، وحين صَعُبَ فهمها بسّطها جورج وسوف في أغنيته الشهيرة «سلف ودين». من الذين لم يَفهموا هذه الحكمة بشار الأسد، لكنّ عدم حكمته هو الذي أجاب على سؤال كنت أطرحه منذ اشتعلت الثورات العربية: «لما لا يرحلون؟»، فهم لا يستطيعون أن يرحلوا وقد تورطوا بما لا يمكن معه أن يُعطوا ظهورهم للشعب، تورطوا في الدم الذي لا ثمن له، ويعرفون أن تسللاً بسيطاً لبريدهم ولحساباتهم وكمبيوتراتهم قادر على كشف نمط حياتهم التي يعيشونها، فاضحة حقيقة أنهم لم يكونوا سوى حراس على مصالحهم وعلى لهوهم وجشعهم، وأن آخر ما فكر به الرئيس هو شعبه: هل ينام جائعاً أم لا؟ وهل يدرس أطفالهم في مدارس من صفيح أم في مدارس تشبه مدارس طفله هو؟ لقد عرف شعبه أنه فعل بهم أكثر مما فعلته إسرائيل بشعب فلسطينالمحتلة، فقد ذكرت إحدى الصحف أن اسرائيل قتلت في أحداث غزة ما بين 50 إلى 500 إنسان، بينما بلغ قتلى رؤساء الثورات العربية، من شعوبهم التي ما أرادت إلا الإصلاح والديموقراطية، من 5000 إلى 50 ألف قتيل. «الغارديان» التي نشرت أسراراً تكشف كيف يعيش الرئيس السوري حياته، تقول إنه لا يزال لديه القدرة على أن يسجل من خلال «آي تيونز»، في وقت كانت تتعرّض مدينة حمص لقصف عنيف أدى إلى مقتل المئات، أغانيَ غربية ويسمعها، وأن زوجته تزور الهارودز لتشتري نجفة، بينما صديقته المستشارة أرسلت له، بعد أن ظهر في التلفاز مخاطباً شعبه أن يعقلوا قبل أن «يُوَرِّيهم» العين الحمرا، تثني على اختياره الطقم المناسب، مما ذكَّرنا بالكرافتة التي أهدتها مونيكا للرئيس الأميركي كلينتون. يقولون إن هناك حبوباً حين يتعاطاها المرء يموت قلبه ويصبح إنساناً بلا قلب. وإن كان صعباً إثبات أن هؤلاء الناس يتعاطون هذه الحبوب، فبإمكاننا أن نثبت أن ثقافة نتعاطاها منذ قرون هي التي تصنع من كل صاحب سلطة شبيهاً بالآلهة معصوماً ومنزهاً، لا يسمع إلا كلمة «حاضر» و «أنت الحق وغيرك خطأ». صاحب السلطة المنفردة هو الذي يراقب نفسه ويحاكم نفسه ويقيِّم نفسه، لهذا قالوا إن السلطة المطلقة مَفْسَدَةٌ مطلقة. الوثائق التي أثبتت أن بشار الأسد لا يزال مزاجه جيداً وقادراً على سماع الأغاني، دليل على أنه بشرٌ مثل كل البشر، وليس بآلهة، وزوجته مثل كل النساء الضعيفات أمام شهوة الشراء، تقع في غرام النجف في هارودز. إذاً، هم بشر مثلنا، يحبون النجف والأغاني، فلِمَ على شعبهم حين يصلون إلى السلطة أن يعاملهم وكأن الأمهات ما أنجبت مثلهم؟ إن كانت الثورة ستنجز شيئاً، فهو ليس خلع الرؤساء الذين طال بقاؤهم فقط، بل إنها تضعنا أمام هذا السياق الثقافي الأعمى الذي ما عاد ممكناً وسط وسائل الكشف الإعلامية الهائلة، والتي أثبتت على الدوام أن الذين يتقاتلون للوصول إلى السلطة لا يتقاتلون من أجل خدمة شعوبهم، بل لأنهم يرون أن السلطة كعكة يأكل الجزء الأكبر منها صاحب السلطة وأقرباؤه وإخوانه من الرضاع.