حتى عندما آويت لفراشي ليلة أمس الأول ماكنت أحسب أنني سأقضي نهار أمس في منطقة هجليج التي ذاع صيتها في الأيام الماضية، وأضحت تلوكها أجهزة الإعلام العالمية في كل نشراتها.. كما أنني قضيت نهار أمس حتى قاربت شمسه على المغيب في تقصي أخبار هجليج حتى انها حملتني نهاراً الى مبنى وزارة الدفاع للاستماع للناطق باسم القوات المسلحة العقيد الصوارمي خالد سعد.. وبعد أن عدت من الصوارمي بحديث تبحث عنه الجهات التي لا شغل لها سوى الأخبار إذا بي أستعد للذهاب لجهاز الأمن والمخابرات لحضور المؤتمر الصحفي لمدير الجهاز الفريق محمد عطا.. وعقب كتابة خبر ما أدلى به محمد عطا ظننت أن حكاية هجليج انتهت في هذا اليوم، ولكن مكالمة تدعوني لرحلة لهجليج نفسها برفقة وزير النفط عوض الجاز.. وبعد المكالمة عادت الذاكرة بي لشهر سبتمبر عام 2000 ووقتها لم تكتب الفصول النهائية للحرب.. والمكان هجليج التي وصلتها برفقة المصور التلفزيوني عاطف الحاج والمصور الفتوغرافي كمال عمر.. وبعد أن غصنا في نوم بمعسكر شركة هجليج للخدمات البترولية إذا بصوت عاطف يوقظني بأن المنطقة بها (تدوين).. سخرت من عاطف أول الأمر وقلت له هذا صوت باب (الكرفانة) الذي تركته مشرعاً.. وقبل أن يرد عاطف على تهكمي هذا جاوبتني دفعة من الذخيرة خرجت من رشاش في المعسكر الذي يجاور معسكر هجليج فأطفات الكهرباء وصرنا تحت رحمة الباعوض.. حتى نار «شيشة» كمال عمر أمر أفراد الاستخبارات بإخمادها وقضينا خمسة أيام نرقب الموقف حتى انجلى بأن استطاعت قوة من القوات المسلحة إخماد مصدر القصف داخل الغابة.. وكان وقتها تقوم به قوات المتمرد بيتر قديت.. قلت في ظلام الغرفة إن هجليج هذه مرتبطة عندي بمتلازمة الحرب وليس الذهب الأسود الذي يتدفق من بين جنبات أرضها. المشهد أمس وبعيداً عن أحاديث الوكالات ومحطات التلفزة بدأت الصورة تطل من خلال نافذة طائرة نوفا الروسية.. أشجار الطلح والهشاب يكسوها شيء من الجفاف ونزعت عنها أوراقها.. ومنازل المسيرية تتوزع منغرسة وسط هذه الاشجار الشوكية.. وقطعان من الأبقار والضأن تسلك الطرق وسط الأشجار التي تشتاق لدفقة المطر لتغير ثيابها.. ومرت أخرى حالة من التنازع ما بين أخبار الأمس وأول الأمس وذكريات سبتمبر 2000 حتى فتح باب الطائرة وانطلق رتل السيارات من مطار هجليج جنوبا على ردمية ترابية تذكرت أنني سرت عليها حتى بانتيو عاصمة ولاية الوحدة مروراً بربكونا والتي حتى بعد مرور السنين كانت وقتها شاهدة على بشاعة الحرب من خلال حفار شركة شيفرون الذي قصفه متمردو الحركة الشعبية وقتها.. وقبل ربكونا كان هناك حقل الوحدة الذي يتكون من آبار حفرتها شيفرون، ولكنها عندما قررت المغادرة في عام 1983 طمرتها. في معقل المقاتلين توقف هذا الاستدعاء للذاكرة داخل معسكر القوات المسلحة المعروف باسم موقع «الشهيد الفاضل» وهو الموقع الذي تقدمت نحوه قوات جيش الجنوب يوم الاثنين بحسب الفريق محمد عطا قاطعة حوالي أربعة عشر كيلو ونصف داخل الأراضي السودانية.. ومع دخول السيارات تقاطر الجنود من أطراف المعسكر وهم يهتفون ويرفعون أسلحتهم ويرددون نريد فقط التعليمات ونحن ننفذ.. وقائدهم اللواء الركن بشير مكي قائد منطقة هجليج العسكرية يقف بينهم وبين الوفد الذي قدم من الخرطوم، ويضم إضافة للجاز والي ولاية جنوب كردفان أحمد هارون، ووزير العلوم والتقانة عيسى بشرى، ونائب رئيس هيئة الأركان عمليات وتدريب الفريق عبد المنعم سعد، ومدير شرطة تأمين البترول، وبعض مسؤولي وزارة النفط، ورهط من الصحفيين بعضهم يعمل في أجهزة إعلام محلية وآخرون يراسلون أجهزة إعلام دولية. واللواء بشير يردد مع جنوده (امسح اكسح) وجندي يقف وسط رفاقه وهو يردد الأنشودة التي اشتهرت في تسعينيات القرن الماضي (في حماك ربنا في سبيل ديننا) ويبتدر اللواء بشير حديثه بقوله «هجليج وما حولها تحت سيطرة القوات المسلحة تماما.. وهذه رسالة للعالم ورداً على ما صرح به رئيس حكومة الجنوب»، وأضاف «تكبد العدو العديد من الخسائر وهناك أسرى منهم». وتطابق حديث اللواء بشير مع المهندس أسامة الذي أسرع نحونا والطاهر المرضي مراسل قناة الجزيرة قائلا «لقد كنا هنا يوم الاثنين نستقبل المحادثات من خارج السودان تسألنا عن احتلال هجليج ونحن بداخلها.. فكان كل ما نستطيعه أن ننفي للذي حادثنا». ونمضي جنوباً وعلى شمال الشارع شباب من قبيلة المسيرية يحملون الكلانشكوف وييممون جنوبا.. ويقول محدثنا بأنهم في طريقهم لمنطقة مواجهة أمس: «هؤلاء جنود الدفاع الشعبي». وأحد قادة المسيرية أمير أولاد عمران إسماعيل حامدين يقول للصحفيين «نحن متمسكون بحدود الأول من يناير 1956 وسنقاتل دونها دون إذن من أحد حتى الحكومة نفسها.. ونقول للخرطوم نحن متمسكون بحدودنا، ولا نريد حتى الحريات «الأربعة» وأمر الرعي سنتدبره». ويزداد هتاف الجند عندما يقول عوض الجاز «هذه البلد لن يدخلها عميل صاحب غرض.. والعدو متربص بالبلاد على منذ ثلاثة وعشرين عاما وحاول حصار السودان ومقاطعته». والسيارات تقف بجانب (ونش) محترق ومازال الدخان يتصاعد منه ورائحة الحديد المحترق وخلفها مباشرة ثلاث جثث عليها آثار حريق وأصحابها لا يرتدون زياً عسكرياً وأمامهم عربتان لا ند كروزر مدمرتان تماماً وإحداهما ما تبقى من آثارها يقول إنها كانت تحمل راجمة والمكان ممتلئ برائحة الجسد الذي تعفن وأصابته التغيرات.. ونقف في إحدى الآبار التي تقوم شركة النيل الكبرى بأعمال الحفر فيها.. والحفار مازال واقفاً، ولكن سكن العاملين احترق بالكامل والدخان ينبعث منه.. ويقول للصحفيين المهندس عبد الله سليمان «هذا الموقع قًصف من داخل حدود دولة الجنوب.. وكما ترون سكن العمال دُمر بالكامل وهو يتبع لمقاول يعمل معنا في شركة هجليج.. ومع هذا الدمار فإن الحفر في الموقع لم يتأثر لأن الحفار لم يصب». وداخل الموقع يصر أحد المهندسين الصينيين الذين يعملون في الموقع الذي أصابته الأضرار ليتحدث للصحفيين قائلا: «نحن نعمل للشعب لماذا يحدث لنا هذا.. وعلى الحكومة حمايتنا ونريد الاطمئنان لنواصل العمل». وفي خاتمة الأمر قال وزير النفط «لم تصب هذه الثروة بأذى على الرغم من النوايا المبيتة لها.. وسيظل أبناء السودان مرابطون هنا.. وضخ النفط مستمر، وسوف يستمر، وسيزداد مهما كانت المؤامرات والتي سوف تتكسر بإذن الله». أما نائب رئيس هيئة الأركان عمليات الفريق عبد المنعم سعد فقال «ليس هناك أي جندي من العدو داخل أرضنا والمنطقة آمنة». وكان الفريق عبد المنعم يتحدث وخلفه مركز المعالجة الرئيسي يرسل دخانه إعلانا بأنه يقوم بمعالجة النفط وتخليصه من الشوائب.. ونودع هجليج والساعة تتجاوز الثالثة بقليل وهي ترقد على بعد 36 كيلو متر من حدود السودان مع دولة الجنود واسمها سيظل حاضراً لأنها مركز النفط.