احتلال قوات دولة جنوب السودان لمنطقة هجليج الواقعة داخل الاراضي السودانية كانت له آثار في الساحة السياسية الداخلية. ومن هذه الآثار أن العدوان فتح الطريق أمام بعض الأوجه السياسية التي كانت تفضل ممارسة الاختفاء عن الساحة السياسية في البلاد منذ فترة ليست بالقصيرة، ولكن خلال الأيام القليلة الماضية أصبح يتردد في وسائل الاعلام اسم مستشار رئيس الجمهورية الطبيب غازي صلاح الدين بعد أن غادر محطة الاختفاء عن الحراك السياسي في البلاد، وذلك بعد اعلان المؤتمر الوطني أمس الأول عن تشكيله للجنة برئاسة غازي، وتضم كبار المفكرين في القطاعات السياسية والاقتصادية والأمنية، وكُلِّفت اللجنة بالشروع في اعداد استراتيجية عاجلة للحكومة تتسم بالمدى الطويل للتعامل مع دولة جنوب السودان على خلفية احتلال قوات الجيش الشعبي لمنطقة هجليج النفطية دون أدنى أسباب أو وجود خلاف حول تبعية المنطقة للسودان أو جنوب السودان. وصارت دولة الجنوب عبارة عن مخلب قط في الدولة الأم، وأظهرت عداءً منقطع النظير إلى جارتها الشمالية بعد انفصاله في التاسع من يوليو الماضي، وامتهنت الدولة الوليدة تعكير صفو الاستقرار في السودان بنفس السيناريو، الذي كان بين دولتي اثيوبيا وارتريا بعد انفصال الأخيرة من الأولى ودخولهم في حرب حصدت أرواح الآلف من البلدين على الرغم من عدم وجود خطوط أنابيب نفط أو قضايا اقتصادية تتفاوض عليها أديس أبابا وأسمرا. ويرى البعض اتجاه الحكومة في صناعة استراتيجية عاجلة تختص بالتعامل مع دولة الجنوب كان حديثا سابقا لبعض القيادات التي كانت تفترض بأن مسار التفاوض مع دولة الجنوب كان ينبغي أن يحدد قبل اعلان الانفصال، وإن هناك أصواتا كثيرة كانت تفضل أن يأتي التعامل على أساس دولتين وإلى عدم ايلاء فريق الوساطة اهتماما كثيرا، ومن الافضلية في انتهاج اسلوب التعامل بين الدولتين وتناسي الاعتبارات السابقة. ويرى البعض الاستراتيجية التي ينوي المؤتمر اعدادها تشير إلى حرص الخرطوم على إدارة القضايا مع دولة الجنوب برؤية جديدة عبرها تستطيع أن تحقق الاستقرار والسلام في المنطقة، وأن السودان أظهر حرصه على تحقيق هذه الأشياء بتكليف الطبيب السياسي الذي عرف عنه امتيازه بالدقة، والحرص الشديد على تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع في الملفات التي تقع بين يديه، وبالاضافة إلى أن الرجل يولي اهتماما كبيرا بمخاطبة أساس المعضلة؛ حتى يستطيع أن ينجز مهامه بأفضل صورة. ومستشار الرئيس عرفه عنه أنه لا يحب الاعلام والأضواء كثيرا، ويفضل العمل في صمت بعكس الآخرين. وقد كانت له تجربة ناجحة في التعامل مع ملف العلاقات مع الدول الجارة التي كانت تدخل في عداء مع السودان. وأبرز هذه التجارب إفلاح الرجل في ترميم العلاقات السودانية التشادية التي وصلت إلى حد المقاطعة الدبلوماسية في عام2008م بعد دخول قوات حركة العدل والمساواة أم درمان، واتهمت الخرطوم انجمينا صراحة بتوفير الدعم اللوجستي لحركة العدل قابلتها اتهمامات تشادية بأن الخرطوم ترعى جماعات المعارضة التشادية، ولكن الطبيب السياسي غازي صلاح الدين استطاع أن يشخص مواقع الجرح والألم واستطاع بحنكة أن يداوي الآلام والجراح، وأخرج منه كل أسباب الانعواج، فاتحا فضاءات رحبة في العلاقات السودانية التشادية، وأزال الشكوك التي سيطرت في مسار العلاقات بين الخرطوم وتشاد كافة. وختم الملف بالتوقيع على اتفاق الدوحة مع حركة التحرير والعدالة وأمن الحدود مع تشاد بمشروع القوات المشتركة السودانية التشادية. وبحسب البعض، فإن العوامل التي جعلت العلاقة مع الجنوب تصل إلى مرحلة العداء تتشابه إلى حد كبير مع العوامل التي أثرت بالعلاقات الدبولماسية مع تشاد في السابق، وأن الاختلاف يكمن في أن دولة الجنوب كانت جزءاً من السودان وأن هناك ملفات اقتصادية وسياسية ومناطق عليها اختلاف تجري عليها مفاوضات تحت رعاية الاتحاد الافريقي، وأن التشابه بين عوامل تشاد والجنوب، وبالاضافة إلى الخبرة الكبيرة التي اكتسبها الطبيب تجعل امكانية معالجة الأمراض التي أفرزتها لعبة السياسة. وأحصى المحلل السياسي حسن الساعوري بعض القدرات التي يمتاز بها الرجل، ووصفها بالكبيرة ومثلها في الخبرة السياسية والتنظيمية عند غازي خاصة في المفاوضات بين الشمال والجنوب واعداده لبرتوكول مشاكوس الذي كان أساسا لاتفاقية السلام الشامل فضلا على شخصية الرجل التي تصعب عن التنازل في المبادئ، وعن قضية يعتبرها قضية حق من الجوانب كافة. ويرى الساعوري في حديثه ل(الأحداث) أمس بأن غازي سيوظف هذه القدرات لنجاح اللجنة التي كلف برئاستها. ورجح بأن تبني اللجنة الاستراتيجية التي كلفت بها واحتواءها على شقين الأول للتعامل مع الوضع الحالي مع الجنوب، وهو نهج عدائي وتبادر للعداء، والثاني لكيفية التعامل مع دولة جارة. وبرر الساعوري هذا الترجيح لامكانية حدوث تغيرات سياسية كبيرة في المواقف السياسية التي تتبناها دولة الجنوب، منبهاً إلى امكانية أن تأتي شخصيات قيادات جنوبية، وتسعى إلى تغيير الوضع الحالي مع السودان. واعاب الساعوري على الحكومة عدم اعداد استراتيجية للتعامل مع دولة جنوب السودان قبل إجراء الاستفتاء؛ حتى تصبح متحسبة لكل أفعال دولة الجنوب. ووافق المحلل السياسي صلاح الدومة سابقه على امتلاك غازي لقدرات لإدارة عمل الللجنة وقال الدومة ل(الأحداث) أمس بأن غازي من الرجال الذين لهم قدرات كبيرة للتفكير النيّر والتنظير حسب الأوضاع، ولكن أظهر الدومة خوفا من ظهور بعض الشخصيات التي لا تريد للرجل أن ينجح في مهمته.