وسمت مبادرة السيد جعفر الميرغني بالطريق الثالث، وهي بالتأكيد كذلك؛ لأنها تقع بين طريقين جربا ولم يساعدا فى حل المشاكل بين الشمال والجنوب كلياً وهما الحرب بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، والمفاوضات بينهما والتي انتهت كما هو معلوم إلى الانفصال. يقول بعض حكماء الصين إن طرفي النزاع في أمر ما قد يكون كلاهما على خطأ، وأن الحل الصحيح قد يكون هو الحل الثالث، وكما أسلفت فقد جربنا الحل بالحرب ولم ينتصر أحد ثم دخلنا في مفاوضات طويلة في كينيا وانتهت إلى اتفاقية نيفاشا وعن نفسي فلست من لاعنيها، ولكنني أقول باختصار إنه لا الحكومة ولا الحركة كانتا جادتين في تسويق فكرة الوحدة الجاذبة، فانتهينا إلى انفصال جنوبنا الحبيب، وليت الأمر ينتهي بهذا، ولكني أرى أن هنالك إرهاصات للعودة للحرب من جديد بين الشمال والجنوب، وكما هو حاصل الآن في بعض مناطق الشمال، وأخشى ما أخشى أن يتكرر سيناريو انفصال الجنوب في السودان الشمالي، وأرجو أن أكون واهماً، وألا نرى يوماً نعيش فيه الحزن والألم بفقدنا لجزء عزيز آخر من وطننا الحبيب. وكما يقال فإن المبادرة هي فكرة تجسد في خطة شاملة تستهدف حل لمشكلة معينة، وفي حال وظفت جيداً تحقق الهدف المنشود وهو الحل الشامل والكامل للمشكلة المعينة. يقول الباحثون والمفكرون أن حل مشكلة ما يتم عن طريق تطبيق ما يعرف بآلية حل المشكلة ((problem solving mechanism وتتلخص هذه الآلية في التعرف على جوهر المشكلة أولاً ثم اقتراح الحلول المناسبة لها ثم تطبيقها على أرض الواقع، ومن بعد ذلك تقييم نتائجها مع المتابعة اللصيقة لتصحيح الأخطاء في التطبيق؛ وذلك من أجل الوصول إلى الحلول الناجعة لهذه المشكلة. بالنظر إلى استطلاع الرأي والذي نشر في صحيفة الاتحادي الأصل في عددها الأخير والصادر بتاريخ 21/مايو/ 2012، نرى أن كل المشاركين كانوا مؤيدين لفكرة المبادرة لكنهم يقترحون تكوين هيئة شعبية لقيادة المبادرة، وليس هنالك في رأيي تناقض بين الفكرتين فلجنة الحكماء يمكن أن تنبثق من هذه الهيئة الشعبية وفي ذلك عدة مزايا منها، أن اللجنة الشعبية يكون مزاجها أقرب لمزاج الشعب في جنوب السودان، ثم أن البروتوكول والرسميات والتي قد تعيق أحياناً المحادثات الرسمية لا يكون لها وجود في حالة قيام الحوار بين شعبي الدولتين؛ لأن الحوار الرسمي يشكله طرفان فقط هما حزب المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب بينما الهيئة الشعبية في الشمال، والتي نرجو أن يكون لها نظير بنفس الاسم في الجنوب تمثلان مجمل الطيف السياسي والاجتماعي والثقافي؛ مما يضيف رؤى جديدة لحل المشاكل العالقة بين البلدين وهذا يكفي الآن، وربما ظهرت عند التطبيق مزايا أخرى تضاف لهذه المزايا.وأقترح أن تشمل خطة العمل لهذه الهيئة بعض ما ذكر في التحقيق ويمثل الرؤيا والرسالة والأهداف المنوط بهذه الهيئة تنفيذها، فقد شملت الكثير نذكر منها على سبيل المثال: وضع كل القضايا المستعصية في إطار الحل النهائي خاصة وأن الزخم الشعبي هو الأكثر أهمية في التأكيد على رفض شعبي البلدين للحرب والصراعات المؤدية إليها مما يرسخ الجوار الآمن ويخدم مصالح البلدين ويخلق الجو المعافى للمفاوضات الرسمية وذلك من خلال وضع رؤيا شعبية كاملة لمستقبل العلاقة بين البلدين، ونستطيع أن نقول باختصار، أن هذه الهيئة الشعبية يمكنها أن تضع رؤيا كاملة لحاضر ومستقبل العلاقة بين البلدين، وذلك من خلال العمل على حل القضايا الراهنة بين البلدين بالمفاوضات؛ مما يرسخ جواراً آمناً يخدم مصالح البلدين. إذا اتفق الجميع على تكوين الهيئة الشعبية في الوقت الراهن، ولا أرى سبباً قوياً يمنع تكوينها، فلنبدأ بدعوة ممثلين للأحزاب السياسية الشمالية كافة والجنوبية إن وجدت في الشمال، بالإضافة لممثلي المنظمات الجماهيرية ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك كل الأفراد الناشطين في العمل العام والكيانات الثقافية والرياضية والفنية والجهوية والعاملين في الإعلام والطلاب في المراحل الدراسية العليا...الخ، لاجتماع عام يناقش ويجيز أهداف هذه المبادرة ثم تنتخب هيئة قائدة من الحاضرين مهمتها القيام بوضع خارطة طريق لإنزال وتجسيد هذه الأهداف على أرض الواقع، وأقترح أن تكون هذه الهيئة القائدة جزءاً أصيلاً في لجنة الحكماء المقترح تكوينها لكي تكون الذراع الذي تنفذ به لجنة الحكماء خططها وبرامجها فيما يلي الشمال. مثل هذه اللجان والهيئات تواجه الكثير من العقبات التي تعيق عملها، ونرجو ألا يحدث ذلك في هذه المرة على الأقل؛ لأن الأهداف المنوط بها تنفيذها هي بالتأكيد أهداف نبيلة كونها تخص السودان الكبير شماله وجنوبه وشعبه الذي ضحى طوال هذه السنين، ولم ينعم بالاستقرار وبخيرات بلادنا الكثيرة وتشرد في أنحاء العالم باللجوء، وفي داخل البلاد بالنزوح، ويعيش في مستوى متدنٍ لا يليق بإنسان هذا العصر. وعلى كل فعند مناقشة بعض المشاكل المتوقع حدوثها يبرز للعيان مباشرة الفهم الخاطئ لجذور هذه المشاكل الآنية بين شمال وجنوب السودان بأكملها وتشمل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...الخ، ولذلك أقترح أن نمارس ما يسمى بالتعافي المتبادل أولاً بين الشماليين والجنوبيين وإذا تعذّر ذلك الآن، فعلى الأقل نمتنع عن إثارة الجدل في ما حدث في الماضي البعيد والقريب بين شعبينا في هذه المرحلة الحرجة، وأن نبدأ صفحة جديدة لحل المشاكل الآنية على أن تكون الخطوة التالية هي تنفيذ عملية التعافي المتبادل بين شعبينا؛ لأن الوقت لا ينتظر الجميع وقد نصل إلى نقطة اللاعودة بين بلدينا، إذا استمر الحال على هذا المنوال، ثم تأتي مسألة من يقود هذه الهيئة، وأرجو أن ينظر الجميع لموضوع القيادة بتجرد، وأن نرشح وننتخب الشخص الجدير بالقيادة بصرف النظر عن لونه السياسي أو وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي...الخ، ثم يأتي موضوع تمويل مثل هذه الهيئات، وهنا أناشد الدولة والمؤسسات المالية المختلفة والقطاع الخاص، وكذلك أفراد الشعب العاديين إن كانت لهم الاستطاعة المالية المساهمة في الدعم المالي لهذه الهيئة. وأخيراً.. فإن كل ما أرجوه أن لا تظهر في الأفق الآن مبادرات بأسماء جديدة تخص هذا الموضوع ، لأنه في اعتقادي أن وقت المبادرات قد انتهى وما علينا إلا أن نعطي الفرصة لمثل هذه المبادرة، فقد يكون في تطبيقها خيراً كثيراً لشعبي البلدين، وما التوفيق إلا من عند الله.