يرهق ذهنه أم ذهنه يرهقه؟؟.. سؤال يطرحه على نفسه كلما اقترب من نهاية موجة تفكير شردت به لساعة كاملة، والسؤال نفسه ومحاولات الإجابة عليه تستنفد طاقة ذهنية عزيزة دون أن ينال جزءاً يسيراً من إجابة قاطعة، والسؤال نفسه يكشف عن رغبة أكيدة للتخلص من هذا الرهق المميت الذي يسكن ذهنه وحياته بكل تعقيداتها، ولكن لا فكاك من هذا الرهق وقد اتحد ذهنه وحياته يحملانه قسراً إليه، ينتابه ليلاً وسواس عنيف يطوف به من موقف لآخر ومن شخص لآخر داخل تفاصيل كثيفة وتنطلق عمليات ذهنية دقيقة تستعرض وتستعيد ما أبصرته وسمعته من حكي وتحليلات ومن ثم يطلق أحكاماً وتنبؤات قد تسعده أو تشقيه وفجأة يهدم ما بناه فينقلب الحال دون أن يصمد ويتحول ليله إلى تناقضات وكابوس تستجيب له نبضات قلبه فتخفق بمعدلات قياسية، وعيناه فلا يهبط لها جفن، تتملكها حالة أرق تطرد النوم حتى ساعات الفجر الأولى وقد ينام خلسة وهذا ما يكتشفه نهاراً حين يتساءل كيف نمت ليلة أمس؟ ويحمد الله أنه نام في النهاية، وحين يطل النهار ينسف كل العمليات الذهنية التي أنتجها ليلة البارحة وقد يكتشف سذاجته وغباءه وقلة حيلته، ويكتشف قسوة الليل عليه وعلى الآلاف حين يلفهم كعادته ويحاصرهم ويمضي بهم في دروب مظلمة وسوداء يعوي صمتها بأصوات تعزز حالة الحصار والغموض والكآبة ودنو صوت أقدام النهايات الحزينة والترقب المخيف الذي يسبق العاصفة، النهار يكذب الليل ويرسم بارقة أمل أو على الأقل يبقي على كل شيء قريباً من الواقع، فتنهار تهويمات الليل وتطمئن النفس وتهدأ قبل أن تعاود وسواسها من جديد، ربما قبل أن يدركها الليل. هي حياتنا وهي أذهاننا وسجال متواصل دون أن ندرك من المبادر، هل هي أذهاننا ترسم تفاصيل حياتنا وترمي بنا في رحلة مرهقة وقاسية؟ أم هي حياتنا تحاصر أذهاننا فترهقها وتتلفها وتقضي عليها بكثرة الطرق وتعطلها؟ وما هي مقادير الطاقة العزيزة التي نستهلكها في هذه التفاكير والهلاوس ونحن نكتب ونمسح في آن واحد؟ وكم هي النتائج الكارثية التي حصدناها بسبب هذا العراك الذهني المتواصل؟ وكم هي النهايات الخاطئة التي توقعناها وهولناها وانتهينا إلى مفارقات مذهلة؟ وكم من صديق صنعت منه تفاكيرنا عدواً لدوداً؟ وكم هم ضحايا الوسواس القهري بدءاً بالمهلوس وانتهاءً بالعشرات الذين ظلمتهم تخاريفنا؟ الهلاويس هي نسخة أخرى لحياتنا، نتخيلها من الألف إلى الياء وتغطي كافة أوجه النشاط البشري، في السياسة والاقتصاد والرياضة والفنون والآداب والحياة الاجتماعية وفي كل وجه، لكل إنسان حياة متخيلة تجري داخل ذهنه مثلها مثل أية قصة لها بداية وعقدة ونهاية، تنتج كافة أطوار الصراع وشخوصه، وهي حياة متغيرة تلعب بها أمواج الهلوسة وهي ذاتها تنتج ما تعارفنا عليه في حياتنا الاجتماعية ب «سوء الفهم» الذي هو مصدر أغلب «بلاوينا» ومشاكلنا داخل حراكنا الاجتماعي، وهي مصدر 90% من أمراضنا حين ننفعل بهذه الهلاوس ونرغي ونزبد أو نكتم غيظاً تخيلنا أسبابه وأسأنا فهمها.. هل من سبيل لنتخلص من هذا البلاء؟ بلا شك هناك من ينعمون بذهن بارد..