يبدو أن حكومة جنوب السودان ممثلة في وزير ماليتها لم تكن صائبة وصادقة عندما أعلنت على لسانه ليومين على التوالي عن أزمة في النقد الأجنبي تعاني منها حكومة جنوب السودان حيث عزت ذلك إلى توقف الحكومة المركزية عن دفع نصيبها من إيرادات النفط بالعملة الصعبة وذلك في الوقت الذي أعلن فيه د. صابر محمد حسن محافظ البنك المركزي أن هذا الحديث لا أساس له من الصحة بل هدف إلى إحداث بلبلة وتشويش على الرأي العام المحلي والخارجي، إلا أن (ديفيد دينق) وزير مالية الجنوب قال إن قرار دفع إيرادات الجنوب النفطية بالجنيه السوداني منذ يوليو (حيلة) لزعزعة اقتصاد الجنوب واعتبرها محاولة واضحة من حزب المؤتمر الوطني لانتهاك اتفاق السلام الشامل. وأضاف أن الشمال كان قد اتخذ إجراءً مماثلاً في يونيو 2008 لكن تم حله عبر الحوار السياسي. وقال إن التحويل بالعملة المحلية يعني أن البنك المركزي بجنوب السودان لن يكون قادراً على تزويد البنوك الجنوبية ومكاتب الصرف الأجنبي بالعملة الصعبة. ظل الاختلال التنموي يضرب بأطنابه في البلاد بصفة عامة منذ استقلالها في العام 1956، وإقليم دارفور على وجه الخصوص كان له نصيبه من هذا الخلل بلا شك، ما حدا لأن ترتفع الأصوات المطالبة بعدالة توزيع السلطة والثروة، ومن ثم تطور الوضع إلى صراع مسلح أدى إلى كوارث إنسانية. وبحسب الإحصاء السكاني في عام 2008م، فإن عدد سكان دارفور يقدر بحوالي 8 ملايين نسمة، يمثلون قبائل متعددة ومتنوعة إثنياً، تماماً بقدر ما يحظى الإقليم بخريطة تنوع بيئي ومناخي فريدة، ما يعزز من سبل النشاط الاقتصادي المعيشي وزراعة المحاصيل النقدية والغذائية. وعلى الرغم من اندلاع الحرب في إقليم دارفور بمبررات التهميش؛ إلا أنه بعد توقيع اتفاقية (أبوجا) للسلام والاتفاقيات التي أعقبتها، لم تتوفر مؤشرات إيجابية لتنفيذ برامج ومشروعات إسعافية في مجالات الصحة والتعليم والمياه والبنى التحتية، بسبب عدم الثقة بين الحكومة المركزية والحركات التي وقعت على اتفاقية (أبوجا) وعلى رأسها حركة تحرير السودان بقيادة مناوي، ولذلك استمر الوضع في دارفور عند محطة (اللا تنمية). التفاوض مع الحركات الرافضة لأبوجا تواصل ب (الدوحة) قبل أن تعلن الحكومة السودانية مؤخراً إستراتيجيتها الجديدة للتعامل مع قضية دارفور على ضوء المستجدات والظروف المتغيرة في الملف، وتقوم الإستراتيجية الجديدة للتعامل مع مشكلة دارفور على ما تسميه الحكومة (مبدأ العمل القريب من المواطن)، وتركز على بناء مؤسسات الحكم في دارفور، بجانب تحسين العلاقات مع دول الجوار وكيفية جعل ذلك عاملاً إيجابياً يعجل بتحقيق سلام دارفور. وكشفت الحكومة السودانية، منتصف الأسبوع، عن تخصيص مبلغ (مليار) و(900) مليون دولار أمريكي لتنفيذ مشاريع تنموية أساسية بولايات دارفورالثلاث في إطار الإستراتيجية الجديدة، وذلك بخلاف تكلفة طريق الإنقاذ الغربي البالغة (304) ملايين دولار أمريكي، حيث تشمل الإستراتيجية المشاريع التنموية وإنشاء وتعبيد الطرق الجديدة، وتشمل كذلك المشاريع في مجالات التعليم والصحة بولايات دارفور الثلاث. ومن جانبه أكد مسؤول ملف دارفور مستشار رئيس الجمهورية د. غازي صلاح الدين العتباني عقب الاجتماع الذي ترأسه نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه في ذات اليوم وضم وزراء القطاع الاقتصادي والخدمي بالدولة يوم الاثنين الماضي بمجلس الوزراء؛ أكد أن الاجتماع بحث سبل دفع العمل التنموي بدارفور، وأضاف غازي في مؤتمر صحفي مشترك مع وزير المالية والاقتصاد الوطني علي محمود عقب اجتماع وزراء القطاع الخدمي أن الاجتماع ناقش المفاوضات والتنمية والخدمات والمصالحات، مبيناً أنه ركز على ضرورة تقديم المشروعات الخدمية والتنموية باعتبارها لا تقل أهمية عن الأمن في دعم السلام. ومن ناحيته كشف وزير المالية والاقتصاد الوطني علي محمود عن اكتمال العمل في طريق الإنقاذ الغربي بنسبة 60% من النهود إلى أم كدادة، الذي تبقى منه حوالي (90 كلم)، مشيراً إلى أن شركة شريان الشمال تقوم باستكمال ما تبقى من الطريق من الفاشر إلى أم كدادة، بجانب تأهيل طريق كاس زالنجي، موضحاً أن تكلفة الطريق تبلغ (304) ملايين دولار، وقال إن العمل بدأ في قطاع (النهود - أم كدادة – الفاشر - نيالا) والعمل فيه مستمر، وأكد محمود أن الاجتماع استعرض المشاريع التنموية للإستراتيجية الجديدة بتكلفة بلغت (1.900.000.000) دولار، مشيراً إلى أن أهم المشاريع التي طرحت شملت تأهيل الطرق بولايات دارفور وصيانتها مع إنشاء ثلاثة جسور بقيمة (200) مليون دولار، إضافة إلى إنشاء طرق فرعية جديدة في شمال دارفور، في كل من منطقة مليط وغربا الطينة، وربط مناطق الفاشر، طويلة، كبكابية، بعاصمة غرب دارفور، وكشف وزير المالية علي محمود عن دراسة لإنشاء طريق آخر بين النهود، الضعين، نيالا بطول (400 كلم)، بالإضافة إلى مد خط ناقل للكهرباء من منطقة الفولة - بابنوسة إلى ولايات دارفور بتكلفة (900) مليون دولار، وأكد وزير المالية أن رئاسات ولايات دارفور الثلاث تحتاج إلى محطات كهرباء إسعافية، مبيناً أن هناك جهوداً تبذل لترحيل بعض المحطات وتركيبها لزيادة الإنتاج، مشيراً إلى أن هناك شبكة مياه يجري تنفيذها بتكلفة (232) مليون جنيه، فضلاً عن مشروعات السلطة الانتقالية التي تعمل على حفر (30) بئراً وتأهيل عدد من المدارس، وكشف وزيرالمالية عن رصد مبلغ (12) مليون دولار لقطاعي التعليم والصحة، بجانب (50) مليون دولار للزراعة. وكان الاتحاد الأفريقي من قبل قد أكد دعمه ومساندته للإستراتيجية الجديدة التي أعدتها الحكومة السودانية للتعامل مع قضية دارفور، وقال رئيس لجنته بالسودان ثابو أمبيكى في تصريحات صحفية سابقة إنه واثق من أن الإستراتيجية الجديدة ستمكن من دفع العملية السياسية باتجاه إيجاد حل عاجل للأزمة في دارفور، بما في ذلك مخاطبة القضايا الأخرى ذات الصلة، والمتمثلة في التنمية والمصالحات القبلية وقضايا العدالة والأمن، وأكد أمبيكى أن لجنة الاتحاد الأفريقى ستتعاون مع الحكومة السودانية في ما يتعلق بتنفيذ تلك الإستراتيجية، وقال إن هذا التعاون سيشمل العمل بشكل لصيق مع بعثة حفظ السلام المشتركة في دارفور، وقال أمبيكي إن وضع إستراتيجية شاملة من قبل الحكومة بشأن دارفور يعني مخاطبة كل القضايا الرئيسية للأزمة، وأضاف أن وضع إستراتيجية لتسريع حل القضية أمر يعني التعامل مع قضايا السلام والأمن والعودة الطوعية للنازحين واللاجئين والتنمية في دارفور، واعتبر هذا أمراً سيساعد على التوصل إلى معالجة شاملة لأزمة الإقليم. وبخصوص طريق الإنقاذ الغربي الذي يعتبر البعض أن عدم اكتماله كان سبباً في بداية قضية دارفور، وكان وزير المالية والاقتصاد الوطني علي محمود قد خص (الأهرام اليوم) بإفادات حوله جاء فيها أن الطريق لديه ثلاثة قطاعات؛ القطاع الأول (النهود - أم كدادة) الذي يبلغ طوله (168 كلم)، مبيناً أن هذا القطاع تكلفته المتعاقد عليها الآن مع الشركات الصينية من القرض الصيني أكثر من (109) ملايين دولار، ثم القطاع الثاني وهو قطاع (أم كدادة - الفاشر)، الذي يبلغ طوله حوالي (220 كلم)، وزاد أن هذا القطاع تكلفته بالضبط (68) مليون دولار مبيناً أنه متعاقد عليه مع شركات صينية، واستطرد محمود أن القطاع الثالث هو قطاع (زالنجي – الجنينة)، الذي يبلغ طوله أكثر من (170 كلم) وبلغت تكلفته أكثر من (108) ملايين دولار. علي محمود أشار في حواره مع الصحيفة إلى أن جملة الاعتمادات لطريق الإنقاذ الغربي بلغت (304) ملايين دولار مبيناً أنها تم الاتفاق عليها مع شركات صينية بقرض صيني، مؤكداً بداية العمل في جميع القطاعات، علاوة على استمرار العمل في قطاع (زالنجي – الجنينة)، فضلاً عن استمرار العمل في طريق (الفاشر - أم كدادة)، الذي بدأ فيه العمل من الفاشر وتم العمل فيه بأكثر من (عشرة كيلو مترات) من الفاشر في الاتجاه نحو أم كدادة، أما قطاع (الأبيض – النهود) فقد شارف علي الانتهاء. وأوضح وزير المالية علي محمود أن هناك شركات محددة تم توقيع عقود معها، وأردف أنها بدأت في العمل بقروض صينية، مبيناً أن هناك مساحة بين الفاشرونيالا كانت تعمل فيها شركة شريان الشمال التي توقفت عن العمل لأسباب أمنية، ولكنه رجح استئناف العمل باعتبار أن نصف المسافة تقريباً اكتمل من نيالا حيث تم إنشاء أكثر من (100 كلم) من المسافة الكلية التي تبلغ حوالي (200 كلم). ويرى مراقبون للشأن الدارفوري أن طريق الإنقاذ الغربي إذا اكتمل وتم ربط مدن دارفور الرئيسية بطرق مسفلتة فإن قضية دارفور تكون قد شارفت علي الانتهاء. وفي هذا المنحى نجد أن اتفاقية سلام دارفور (أبوجا) الموقعة بين حكومة السودان وحركة تحرير السودان، أوقفت نزيف الدم جزئياً واتجهت لعلاج المشكلة من جذورها، إلا أنها فشلت في حل المشكلة في محاورها المختلفة، وكانت أهم هذه المحاور هي التنمية وإعمار ما دمرته الحرب، وكانت تسعى إلى إعادة التأهيل والإعمار والبناء والتنمية والتركيز على الأهداف الإستراتيجية لولايات دارفور في مجال النهوض الاقتصادي والتنمية خلال فترة ما بعد النزاع ضمن السياسة الاقتصادية القومية الشاملة وتنشيط اقتصاد ولايات دارفور بما يتيح الاندماج في الاقتصاد القومي وإعادة تأهيل الخدمات الاجتماعية الأساسية ومحاربة الفقر وتوفير فرص العمالة واستعادة السلم والأمن والاستقرار الاجتماعي وتنفيذ المهام الحكومية ودعم الإدارة المدنية والأهلية. ويذكر أن هناك عدة مشروعات مقترحة لإعمار دارفور من بينها مشروعات الصحة والرعاية الاجتماعية وبناء وصيانة المستشفيات الريفية والحضرية ومشروعات التعليم المتمثلة في بناء وصيانة وتطوير خدمات التعليم، فضلاً عن مشروعات المياه المتمثلة في مشروعات مياه الريف بولايات دارفور الثلاث وصيانة الحفائر والسدود والخزانات وبناء القرى النموذجية لإعادة التوطين ومشروعات البنية التحتية وتشييد الطرق والكباري فضلاً عن التعويض الفردي والجماعي ومشروعات جبر الضرر، ولكن هذه المشروعات لم يتم تنفيذها لعدة معوقات من بينها عدم توفر الإرادة القوية من المركز تجاه التنمية في دارفور وعدم الاستقرار الأمني وضعف الدعم الرسمي المخصص للميزانيات بالاتفاقيات الموقعة، وحتى يتم إنجاز هذه المشاريع هناك ضرورة لالتزام الدولة بمستحقات الاتفاقيات الموقعة واستقطاب الدعم لبرامج الإعمار والتنمية... ولكن بخصوص تنفيذ إستراتيجية الحكومة الجديدة تجاه دارفور التي رصدت لها مبلغ (1.9) مليار دولار فإن تنفيذها وتحقيق أهدافها لا يتم إلا بعد أن تنجح الحكومة السودانية في توقيع تسوية سياسية مع الحركات الدارفورية المسلحة في (الدوحة)، وإلى أن يتحقق ذلك تبقى كل الاحتمالات واردة بشأن إستراتيجية دارفور الجديدة!