عادل القصاص، أنت مقل في كتاباتك القصصية، لماذا؟ (( غالبا ما كانت فترة إنتاجي القصصي متباعدة وحين تتأمل الفرق الزمني بين قصة واخرى فستجده يترواح بين عام او عامين اوثلاثة فيما عدا قصتين لي صدرتا خلال عام واحد وهو امر لم اخطط له، هذا عندما كنت داخل الوطن، بيد ان الامر اختلف في الشتات، حيث لم اكتب طوال سنوات تسع سوى نص قصصي واحد واعتقد ان ذلك يرجع لاسباب تتباين مصادرها وتتفاوت درجات تأثيرها فبالإضافة الى رهبتي الغريزية من البياض، بياض الورقة الذي يحذرني من مغبة إنجاز نص بلا شخصية متميزة، لم اتوفر، طوال فترة شتاتي علي حالات من شبه الاستقرار، الذي هو نسبي طبعا، - الداخلي والخارجي - كما كان - مايزال - الواقع الثقافي الاريتري - في قطر يكابد الام وارتباك البدايات - يعاني من دوار التشكل، اضف الي ذلك الغياب التام تقريبا للإصدارات الثقافية العربية عنه، اما الحضور السوداني في اريتريا فقد كان وما يزال حضورا اجتماعيا، تجاريا، وظيفيا، سياسيا في معظمه ولم يكن حضورا ثقافيا الا فيما ندر وبشكل فردي تقريبا وعابر، ثم جاء العمل السياسي السوداني (المعارض) الخالي بداهة من اي اجندة ثقافية ببراثنه اليومية المعروفة اشرت الى بعض العوامل التي من شأن توافرها النسبي، ان تساهم في خلق سياق ثقافي ينعش الروح والمخيلة ومع ذلك فإنني لا اتنصل من المسؤولية الذاتية، اذ لا اكل من تأنيب نفسي، بأنني، ربما لم احسن التأقلم علي واقع الشتات، حتي ان عقيرتي الجوانية كثيرا ما تجأر بعبارات مثل - ( اللعنة، هل انا لست الا كائنا داخليا ) - )) للمكان جداله مع الذاكرة للمكان حرفة ان يموضع التفاصيل للمكان وشائج وعلائق تكثف ذائقة الازمنة المكان هو فضاء التحولات عبر الاختلاف والتنوع، عبر نفيه نحو اللامكان، عبر الحضور والغياب، عبر توهج الزمن وتخثره، لكل ذلك، اسأل عادل القصاص، جامعة الخرطوم ذلك المكان الذي كنت تعمل في مكتبته، لا شك، لك معه نوع من توتر وانسجام في علائقك الحميمة معه (( كانت فترة عملي بالمكتبة الرئيسية لجامعة الخرطوم فترة غزارة اجتماعية، وجدانية، ثقافية، معرفية وإبداعية اكثر منها فترة اداء وظيفي، بل احيانا كنت انسى وربما اتناسي ان لدي التزاما وظيفيا يجب الخضوع له، مما جعلني كثير التعرض للاستجوابات والتحقيقات والمحاسبات الادارية، فقد كانت وما تزال جينات التمرد متمكنة مني، كنت محرضا دائبا على العشق وما ازال، كنت أتاسى وانا ارى لوعة الحرمان تتلوى في عيني هذه الطالبة او تلك، لهوجة الايقاع ترشح من هذا الطالب او ذاك، ما من بد من العشق لمن يريد وجدانا معافى ومساما تبث النسيم، كم تمنيت ان ارى سربا من العشاق يلج قاعة المحاضرات متخاصرا وتأمل، مثلا، هذا المشروع الظلامي، هذا المشروع المصاب بخراب مكين في الوجدان، شلل في الخيال، عطب في العقل ودمامة في اللسان، لماذا يرتبك هذا المشروع لدى مرور فتاة ترتدي تشيرتا وبنطال جينز؟ او ليس من المؤكد ان يغمي عليه فيما لو عبرت بتلك الهيئة مخاصرة حبيبها؟ الجمال، العشق، الخيال الوسيم ، هذا هو ماء التغير فكرت في ذلك الوقت وما ازال، في كتابة مشروع اقترحت له عنوانا (علي هامش مظاهرة العشاق )، في تلك الفترة كتبت ( المرأة تعادي للارتباك واللوعة المكابرة) (نشيد التماسك )، ( ذات صفاء ) ونصوص اخرى خارج حقل التصنيف القصصي، ذلك - هذا - الانخراط العاطفي كانت تتوازي، تتقاطع، تتأصر معه قراءات، معارف ومثاقفات ما كنت لا توفر على جلها لولا جامعة الخرطوم ومكتبتها وانشطتها ورموزها، حتى ان بعضا من علاقاتي الاجتماعية التي انبنت فيها وخلالها ما تزال تضخ في اوردتي دمها الاسترتيجي )) و هكذا بدلا من ان يهتف عادل القصاص هتافه الجمالي على هامش مظاهرة العشاق، بدلا من ان يصوغ بيان العشق تقاذفته المنافي الى درجة اللجوء الى هذا الاعتراف الصافي ( ربما، لم احسن التأقلم علي واقع الشتات، حتى ان عقيرتي الجوانية كثيرا ما تجأر بعبارات مثل - اللعنة، هل انا لست الا كائنا داخليا ) علي كل ها هو عاطف خيري يا عادل القصاص يصفع شعريا هذا الخراب المكين: (بلاد كلما ابتسمت حطّ على شفتيها الذباب ) في مساء غريب، لم يعد عادل القصاص الى منزله في الحارة السابعة بالثورة، لم يرش الباحة التي امام الديوان ولم يمتع نفسه برائحة شجرة الحناء التي يفوح عطرها حين تستقبل رشات الماء، كان عطر (الحنه) يوحي دائما بقدوم الاصدقاء، لم تراوده امه كي يأكل من سلطة الاسود المطبوخة بالزبادي والشطة الخضراء، لم تسأله اخته ( مفيدة ) عن عشاء الليلة مع اصدقائه القادمين، لم يخرج حاملا ( البستله ) لاحضار الفول ولم يستدن من الدكان القريب علبة من البرنجي، في هذا المساء من يوليو 1991م، لم يعد عادل القصاص الى منزله ولم يذهب الى اي منزل من منازل اصدقائه المتناثرين على العاصمة المثلثة، لم يعد عودته العادية ولكنه عاد الى البيت مخفورا بدزينة من رجالات الامن، فتشوا المنزل وحملوا معهم نصف مكتبته تقريبا، لعادل القصاص مكتبة منزلية كنت استمتع بها حين تضمنا مقيلة جمعة في منزله، اذكر انني قد اخذت منها كتابا عن كتابة السيناريو اضاف الي الكثير في هذا المجال، حملت دزينة القبح تلك نصف تلك المكتبة وعادت بعادل القصاص وقذفوا به في بئر سلم مكدس بالكتب، كتب آخرين مصادرة اضيفت اليها الكتب التي تساوي نصف مكتبته، حشروه هناك، في بئر السلم تلك ونظر اليه احد اولئك الذين ذهبوا به الى منزله لتفتيشه، نظر اليه وقال ساخرا :- ( اها، اقرأ بعد ده ) حدث ذلك بعد ان تم اعتقال عادل القصاص في ظهيرة من يوليو 1991م، حين كان يتحرك من كافتيريا (القولدن قيت ) بعد ان مر بالحاجة ( سكينة ) بائعة الملاح والكسرة على الشارع الذي به داخلية بنات جامعة الخرطوم، داخلية ( بحر الغزال )، كان قد خرج وقتها من داخل الجامعة ليشتري علبة( برنجي ) ويعود حيث ترك صديقة من صديقاته تنتظره هناك، قبل دخوله الى الداخل اشار اليه طالب كان في كلية الاقتصاد يعمل في جهاز الامن وكان وقتها يشير الى رجال الامن كي يتم تنفيذ الاعتقال على طلاب هم في الضد من المشروع الحاكم، وحين مر عادل القصاص من حيث كان يتم الحدث أشار اليه ذلك الطالب إشارة ذات مرجعية شخصية، اذ أنه – الطالب – رجل الامن - قد تعرض ل ( شاكوش ) مدوٍ من احدى البنات والتي كانت علي علاقة طيبة بعادل القصاص، تلك الاشارة ذات المرجعية العاطفية قذفت بعادل القصاص الى حيث هناك، وراء اماكن لا تخص مزاجه في شيء حين كان الضابط المسؤول يحقق ولم يجد ما يدين عادل وفكر في إطلاق سراحه، جاء ذلك الطالب – رجل الامن - واعلن ان عادل القصاص يخصه وحده ويخصه جدا وجدد معه التحقيق، كان تحقيقا غريبا تركز على علاقات عادل القصاص بصديقاته وكيف أنهن يزرنه وهو يزورهن واتهم عادل بأنه الصلة بين التجمع واتحاد الطلبة وهكذا رافقته تلك القوة من رجال الامن الى المنزل وعادوا به الى حيث تم قذفه هو وكتبه في بئر سلم استعدادا لنقله الى مكان آخر حدث ذلك في طقس احمق وهانذا في طقس خاص احاور عادل القصاص عن علاقته بالحركة الشعبية لتحرير السودان و لا تزال النوافذ مفتوحة.