عبد المنعم طالب «كلية الفنون الجميلة» بدأ مثقلاً جداً «بالأدب الإبراهيمي» المقدس، كما لو أنه يود أن يؤسس لمدرسة فنية جديدة تستوحي فلسفتها من المدرسة الإبراهيمية، مدرسة تنزع إلى التوحيد والتعرف على الله سبحانه وتعالى من خلال التأملات، كما تفكّر أبونا إبراهيم عليه السلام في ملكوت السماوات والأرض، ذلك التأمل الذي تحتشد مشاهده بتراجيديا شكلية وتصويرية مدهشة، حتى إيمانه، عليه السلام، كما لو أنه يتجسد فيه «فن التشكيل» أو هكذا يبدو المشهد لطالب الفنون والتشكيل، لما رأى القمر قال هذا ربي، غير أن مشهد بزوغ الشمس جعله يترك القمر جانباً، هذا ربي هذا أكبر، ثم يرتفع التأمل إلى مراقي «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض» الآية.. ثم تنتقل الدراما واستخداماتها التشكيلية إلى مرحلة إقناع الآخرين، فلما سئل بعد تحطيم تلك الأصنام، «من فعل هذا بآلهتنا» قال لقد فعلها كبيرهم «إن كانوا ينطقون». المهم في الأمر أن دراسة الفنون لم تدفع الطالب عبد المنعم ليذهب في طريق الجنوح والجموح كما أفضت الفنون دائماً ببعض منسوبيها، الفنون تقود الطالب عبد المنعم إلى معرفة الله سبحانه، ومن يرد الله به خيراً يجعل فقه الفنون طريقاً يلتمس به علماً نافعاً. كان عبد المنعم وقتها طالباً بالسنة الثانية، وهو القادم من بيئة أنصارية صارمة تناهض التبغ والتمباك، رأى ذات يوم أن ينهض «بثورة التبغ»! فراح يجمع بعض الفتاوى من الشرق والغرب، لكنه رأي أن يركز على رؤيتين اثنتين، الأولى فتاوى أئمة الحجاز في مشروعية التبغ، والثانية فتوى علماء مصر في تدخين السجائر، فحمل هذه الفتاوى، فتاوى هيئة كبار العلماء بالحجاز وفتوى هيئة الأزهر الشريف، والهيئتان الإسلاميتان تحرمان التدخين، هكذا حدث نفسه بانتزاع «فتوى سودانية» طازجة تعزز تلك الفتاوى، فرأى أن يذهب إلى ديوان النائب العام على افتراض أن «مفتي الديار السودانية» يقيم في هذا الديوان، وبالفعل ذهب إلى هناك واستقبله باحترام رجال مكتب الاستقبال ثم دلوه إلى مكتب السيد المفتي بالطابق الأول. الطالب عبد المنعم صاحب «المدرسة الإبراهيمية» التشكيلية، إن صحت هذه الرؤية المصطلحية، يصل أخيراً إلى استقبال السيد المفتي، عبد المنعم ينظر إلى السكرتيرة شزراً، إنها فتاة سودانية عادية تحتشم فقط بالثوب السوداني، عبد المنعم يقول في نفسه، يفترض أن ترتدي سكرتيرة السيد المفتي خماراً صارماً إن لم يكن نقاباً! بدأت ثقة وثورة عبد المنعم تتبدد وتتبعثر، إن مفتياً بهذه السكرتارية من المواصفات لا يقوى على إصدار فتوى سودانية تحرم السجائر، خاطب السكرتيرة هل بالإمكان مقابلة السيد المفتي؟ قالت نعم بالإمكان ذلك، غابت السكرتيرة للحظات ثم عادت لتقول له «تفضل السيد المفتي في انتظارك» يدلف عبد المنعم إلى داخل المكتب، ثم تنتابه حيرة أخرى، مفتي الديار لا يرتدي جلباباً ولا قفطاناً وبلا عمامة، شاب يرتدي زياً إفرنجياً كامل الدسم ويرسل تسريحة شعره إلى الامام ككل الشباب، يقول المفتي «أيوه نعم ماذا وراءك؟»، عبد المنعم يخرج من شنطته الجلدية العتيقة حزمة من الأوراق، أوراق أزهرية وأخرى حجازية لا تبيح استخدام السجائر، ثم يطلب من المفتي رؤية سودانية، يقول المفتي.. «أقولك قولة» يقول عبد المنعم «نعم» ، «أنا يا دوبك طفيت سيجارتي»، تكاد الحيرة تعصف بعبد المنعم قبل أن يكتشف أن هذا الشاب الذي يجلس أمامه ليس إلا «أحمد المفتي» أحد المستشارين بديوان النائب العام...!