شغلتنا شواغل السياسة، وهموم الاستفتاء، وهواجس تداعياته، وحدةً أو انفصالاً، وما فتئنا نركض ركضاً لمتابعة المشهد السياسي السوداني المتسارع الخطى، ونرقب كتابةً وتحليلاً، مُخرجات عسيرة الإدراك لاستحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان في التاسع من يناير 2011، ضمن استحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام، العاجل منها والآجل، ونتنازع في هذه الكتابات وتلك التحليلات في وسائل الإعلام المختلفة، المحلية والعالمية، بين تشوقات التأجيل نُصرةً لخيار الوحدة الطوعية المأمولة، وخشية التعجيل من تحقيق الانفصال ومخاطره المرهوبة، ونحن في هذا الاضطراب، وذاك اللجاج، يُدركنا عيد الأضحى المبارك، مُزاحماً الألويات، ومُغيباً الضرورات، ولو إلى حينٍ. وأحسب أن الكثيرين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، لا سيما الذين أقاموا في المهاجر، ما أقام عسيب، ولم يتسنَ لهم أن يشاركوا أهلهم وذويهم وأصدقاءهم ورسلاءهم ومعارفهم، فرحة العيد، ونشوة الاحتفاء، وجميل اللقاء، تجد بعضهم يستذكر ويذاكر في هذه الأيام، دالية الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحسين، المعروف بالمتنبئ: عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُ أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُم فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ وَكَانَ أطيَبَ مِنْ سَيفي مُعانَقَةً أشْبَاهُ رَوْنَقِهِ الغِيدُ الأمَاليدُ لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي شَيْئاً تُتَيّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ فتجد هذا البعض يرددها نشواناً جذلاً، ويتغنى بها طرباً فرحاً، ويتأمل ما فيها من معانٍ وحكمٍ، فهي بالنسبة له سلوى الفراق، وتذكرة العشاق، خاصةً وأنه قد حالت صروف الدهر بينه وأهله، وباعدت مسافات الأمكنة من لقاء أحبته. ويجد في هذا الترديد أيضاً راحةً وسلوى، لأنها قيلت في عيد الأضحى المبارك، فلا غرو أن يتأثر بها في هذه الأيام المباركات، ويتأمل لما فيها من شعر حكمة، ويطرب لما فيها من سحر بيان، وهو في ذلك يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا". فهذه الأبيات من دالية المتنبئ عبقري الشعر العربي، أحسبها معايدة، فيها أسى وحنين، وتشوقات وأنين. فكل عام وأنتم والسودان بخيرٍ، وأعاده الله تعالى علينا وعلى بلادنا وأمتنا الإسلامية بالخير واليُمن والبركات، ونسأل الله تعالى أن يتقبل من حجاج بيت الله الحرام حجهم قبولاً طيباً حسناً، وأن يجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً وعوداً حميداً. وأحسب أن شواغل السياسة، وهواجس الاستفتاء، ومُزاحمة العيد، شغلتنا عن الالتفات كتابةً، عن أسبوع مكافحة التدخين في الفترة من 24 – 30 أكتوبر 2010، الذي نظمته الإذاعة الطبية في جامعة العلوم الطبية والتكنولولجيا من خلال إدراكها أنه بات غير خافٍ على الكثيرين من أن هناك تغييب للوعي بمخاطر التدخين، وتجاهل ضرورة القيام بالتوعية بأضراره. فقد انتظم هذا العمل التوعوي المهم في الأعمال الإذاعية طوال ذلكم الأسبوع ، بالإضافة إلى أعمال توعوية خارجية متزامنة. وبالفعل تم توظيف الخارطة البرامجية للإذاعة الطبية بكاملها خلال أسبوع مكافحة التدخين. كما بثت الإذاعة إعلانات وبرامج خُصصت للحديث عن مضار التدخين وأضراره، وذلك من خلال استضافة الإذاعة لعدد من الأطباء الاستشاريين، والخبراء في المنظمات والجمعيات العاملة في مجال مكافحة التدخين، بالإضافة إلى برامج إذاعية تفاعلية مع المستمعين. واستعرضت الإذاعة في أحد برامجها تقريراً مفصلاً عن أساليب مكافحة التدخين داخل السودان وخارجه في وسائل الإعلام المختلفة، إضافة إلى شبكة الانترنت، وكتابة الارشادات التحذيرية في علب السجائر وغيرها، وحملات مكافحة التدخين من قبل منظمة الصحة العالمية. واستعراض بعض تجارب المدخنين مع الإقلاع عن التدخين. كما عملت الإذاعة على تقديم مسابقة متعلقة بتجربة مستمع مع الإقلاع عن التدخين، قدمت جوائزها في اليوم الختامي. كان من الضروري المساهمة الفاعلة من وسائل الإعلام السودانية المختلفة في هذه الحملة الإذاعية في إطار أسبوع مكافحة التدخين، خاصة أن حملات التوعية من مضار التدخين وأضراره لا تتصدر أولويات وزارة الصحة الاتحادية ووزارات الصحة الولائية، لذلك من المهم اغتنام مثل هذه السوانح لتكثيف التوعية لمكافحة التدخين، الذي أصبح يُشكل هاجساً صحياً للدول المتقدمة. فالتدخين يسبب الوفاة المبكر لأكثر من 87 ألف شخص في كل عام. وفي تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية صدر يوم الاثنين 8 نوفمبر 2010، أظهر أن روسيا هي الدولة التي تضم أكبر عدد مدخنين في العالم. وذكرت وكالة الأنباء الروسية "نوفوستي" أن تقريراً أعدته منظمة الصحة العالمية، وسلمت نسخة منه إلى وزارة الصحة الروسية أظهر أن عدد المدخنين في روسيا بلغ في عام 2009، 43.9 مليون مدخن أي 40% من السكان. وأظهر التقرير أيضاً أن 60% من الرجال من الروس مدخنون، وأن 22% من النساء مدخنات. وكانت الحكومة الروسية بدأت باتخاذ خطوات لمحاربة الإدمان على التدخين الذي يقتل 500 ألف شخص سنوياً، وأعلنت لحظر الإعلان والترويج للسجائر بدءاً من عام 2011، ومنع تام للتدخين في الأماكن العامة. وقال لويجي ميغليوريني رئيس مكتب منظمة الصحة العالمية في روسيا "إن هذا المسح ليس وثيقة إدانة، بل هو دعوة إلى الصحوة". وفي تأكيد على أن خطر التدخين يمكن مواجهته بشرط الجدية في تطبيق القانون مهما تبلغ الاعتراضات. فقد نجحت مدينة نيويورك الأميركية في قطف أُولى ثمار سياساتها المعادية للتدخين داخل المدينة، بعد أن تراجعت الوفيات المرتبطة بالتدخين بنسبة 17% في السنوات الثماني الماضية، وانخفض عدد المدخنين بنسبة الثلث تقريباً. وقالت إدارة الصحة في نيويورك "إن عدد الأشخاص الذين يموتون جراء الأمراض المرتبطة بالتدخين انخفض إلى نحو 7200 شخص في عام 2009، بعد أن كان 8700 في عام 2002، نتيجة الحملة الصارمة لمناهضة التدخين التي دشنها مايكل بلومبرغ عمدة مدينة نيويورك في عام 2003. وكانت إدارة الصحة قد أشارت إلى أن المدينة وزعت لصقات ولبان النيكوتين على 350 ألفاً من سكان نيويورك منذ عام 2003، مما ساعد في إقلاع 80 ألف مدخن عن التدخين. وأضافت أن رسوماً توضيحية تصور الأضرار التي يلحقها التدخين بالجسم، أقنعت كثيرين بالإقلاع عن التدخين. وأحسب أن مكافحة التدخين في الدول الغربية أخذت طابعاً مؤثراً وفاعلاً في إقناع الكثير من المدخنين بالإقلاع عن التدخين حالياً، من خلال سن القوانين والتشريعات الصارمة في مواجهة ظاهرة التدخين، ومن خلال الحملات التوعوية بمخاطر التدخين، وخلق وعي بأضراره، من ذلك المنع القانوني للتدخين في أماكن العمل والأماكن العامة، وضُيقت المساحات المتاحة للتدخين بصورة واضحة، بحيث ترى مثلاً في بريطانيا المدخنين يجوبون الشوارع تحت زخات المطر وزمهرير البرد من أجل التدخين لبضع دقائق. وسمحت السلطات البريطانية بنشر صور مرعبة على علب السجائر لرئات متعفنة، وجثة في مشرحة، وطفل في غرفة العناية الفائقة، وأسنان سوداء، وحنجرة مصابة بالسرطان. ولن تحل هذه الصور، التي تريد السلطات البريطانية من وراء السماح بها تحذير الناس من المخاطر المترتبة على التدخين، محل التحذيرات المكتوبة على علب السجائر، التي تم إدخالها في يناير 2003، والتي ستستمر في الظهور على أغلفة علب السجائر على مستوى العالم. وقالت ديبورا آرنوت مديرة حملة العمل حول التدخين والصحة لقناة "سكاي نيوز" التلفزيونية البريطانية "إن الصور الصارخة في التحذيرات المرفقة على علب السجائر، هي دعوة إلى المدخنين للإقلاع عن التدخين، وستكون لها نتائج أفضل من التحذيرات المكتوبة". وأضافت آرنوت "هناك دليل على أن التحذير المصور يعمل أفضل من التحذير المكتوب، ولذلك نحث الحكومة (البريطانية) أيضاً على اعتماد تشريع آخر يُلزم بوضع الصور على ظهر علب السجائر لزيادة تأثير هذه الصور إلى أقصى حدٍّ". كما حذر باحثون كنديون من أن تدخين السجائر بالقرب من الأطفال قد يتسبب في ظهور حالة من الإدمان على النيكوتين لديهم. ولتكثيف حملات التوعية من أضرار التدخين، صحياً واقتصادياً واجتماعياً، اتخذت منظمة الصحة العالمية خطوة تاريخية في مايو 2003، استكمالاً لخمس سنوات من العمل الذي جمع بين اليقين العلمي والإرادة السياسية فيما يتعلق بمجموعة من القواعد العالمية الخاصة بمبيعات التبغ والترويج له واستهلاكه، حيث اعتمدت الدول الأعضاء في المنظمة، والبالغ عددها 129 دولة، بالإجماع الاتفاقية الإطارية بشأن مكافحة التبغ والتدخين. ويعتبر ميثاق منظمة الصحة العالمية الخاص بالاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ، هو أداة التعامل لمواجهة تهديد صحي عالمي، حيث يهدف الميثاق لحماية التشريع الوطني من التأثير عليه بواسطة الأنشطة التي تؤثر على الميثاق، مثل الإعلان من خارج الحدود أو تهريب منتجات التبغ. كما يحدد الميثاق العديد من البنود حول قضايا الدعاية والإعلان، وزيادة الضرائب مع الأسعار والعلامات التجارية والدخان المستعمل. أخلص إلى أن التدخين لحداثته لا يوجد حكم فقهي سابق فيه للفقهاء المجتهدين القدامى، لذلك اختلف الفقهاء المعاصرين حول الحكم الفقهي على التدخين، اختلافاً بيناً، فمنهم مَنْ ذهب إلى حرمته، ومنهم مَنْ أفتى بكراهته، ومنهم مَنْ قال بإباحته، ومنهم مَنْ توقف فيه وسكت عن البحث عنه، وكل أهل مذهب من المذاهب الأربعة – السنية – فيهم مَنْ حرمه، وفيهم مَنْ كرهه، وفيهم مَنْ أباحه، ولهذا لا نستطيع أن ننسب إلى مذهب القول بتحريم أو كراهة أو إباحة. لذلك كانت فتوى الشيخ الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي بشأن التدخين على النحو التالي: ".. ويبدو لي أن الخلاف بين علماء المذاهب عند ظهور الدخان، وشيوع تعاطيه، واختلافهم في إصدار حكم شرعي في استعماله، ليس منشؤه في الغالب اختلاف الأدلة، بل الاختلاف في تحقيق المناط. فمنهم من أثبت للتدخين عدة منافع في زعمه. ومنهم من أثبت له مضار قليلة تقابلها منافع موازية لها. ومنهم من لم يثبت له أية منافع، ولكن نفى عنه الضرر وهكذا. ومعنى هذا أنهم لو تأكدوا من وجود الضرر في هذا الشيء لحرموه بلا جدال. وهنا نقول: إن إثبات الضرر البدني أو نفيه في "الدخان" ومثله مما يتعاطى ليس من شأن علماء الفقه،. بل من شأن علماء الطب والتحليل. فهم الذين يسألون هنا، لأنهم أهل العلم والخبرة. قال تعالى: "فاسأل به خبيراً" وقال: "ولا ينبئك مثل خبير". أما علماء الطب والتحليل فقد قالوا كلمتهم في بيان آثار التدخين الضارة على البدن بوجه عام، وعلى الرئتين والجهاز التنفسي بوجه خاص، وما يؤدي إليه من الإصابة بسرطان الرئة مما جعل العالم كله في السنوات الأخيرة يتنادى بوجوب التحذير من التدخين. وفي عصرنا ينبغي أن يتفق العلماء على الحكم وذلك أن حكم الفقيه هنا يبنى على رأي الطبيب، فإذا قال الطبيب إن هذه الآفة- التدخين- ضارة بالإنسان فلابد أن يقول الفقيه هذه حرام، لأن كل ما يضر بصحة الإنسان يجب أن يحرم شرعا. على أن من أضرار التدخين مالا يحتاج إثباته إلى طبيب اختصاصي ولا إلى محلل كيماوي، حيث يتساوى في معرفته عموم الناس، من مثقفين وأميين". أما فتوى الشيخ الراحل عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام للمملكة العربية السعودية بشأن التدخين، هي: "التدخين ثبت عندنا أنه محرم، وقد علمنا أسباباً كثيرة لتحريمه من أضراره المتعددة، فهو محرم بلا شك، لأنه يشتمل على أضرار كثيرة بينها الأطباء وبينها من استعمله، فالواجب على كل مسلم تركه والحذر منه، لأن الله حرم على المؤمن أن يضر نفسه، فهو يقول سبحانه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، ويقول جلا وعلا: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله بكم رحيما"، فالواجب على كل مؤمن وعلى كل مؤمنة، الحذر من كل ما حرم الله، والحذر من كل ما يضر دين العبد وبدنه ودنياه، فالله أرحم بعباده منهم بأنفسهم، فقد حرم عليهم ما يضرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وهذا التدخين ضار ضرراً بيناً بإجماع أهل المعرفة، من أهل الطب، وبإجماع مَنْ عرفه وجربه وما فيه من الضرر العظيم..". وأصدرت دار الإفتاء المصرية حكماً شرعياً بالحُرمة القطعية للتدخين، حيث قالت الفتوى "إن العلم قد قطع في عصرنا الحالي بأضرار استخدامات التبغ على النفس، لما فيه من إسراف وتبذير، نهى الله عنهما، والله تعالى يقول: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما". وتقول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية: "شرب الدخان حرام، وزرعه حرام، والاتجار به حرام، لما فيه من الضرر، وقد روي في الحديث "لا ضرر ولا ضرار". ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ". وقول الشاعر في السيجارة: يا من يهيم بقدها العشاق بئس الوصال وبئس منك عناق كم تزعمين الوصل منك مفاتحاً للعقل حتى لفه الإغلاق هم إذا رام الفتى تفريجه وصلاً يضيق على فضاه خناق أين الجمال وأين ما نمقته للواهمين وأين منك مذاق وجهٌ كليح ٌ بالخسارة منذر أقبح بوجهٍ شاهه الإحراق
