حين مشاهدتك الأولى للأشياء تفقد القدرة على التمييز بينها على كافة المستويات، بل تفقدك القوة على مقاومتها كما يجب كي لا تتحول إلى شيء فاقد لسيطرة الرؤية والقدرة والقوة! هذه الفلسفة العميقة هيأتني لمتابعة برنامج كتب عنه المتفرغون للكتابة في الفنون عموما - ولا أقول النقاد - سلباً أو إيجاباً، حيث أن برنامج (ذوق جيل) المذاع على قناة هارموني فتح كوة على الفضاء كانت في أحسن الحالات الفنية مغلقة على صالونات البيوت وصالات الأفراح وصيوانات من لاعذاب لهم! ليس لأن الفنانين الذين لاحقا أصبحوا مجموعة اجتماعية اختارت كنية لها (نحنا ليكم) كمبادرة لترجيح كفة الميزان الفنية اجتماعيا وإنسانيا أكثر هم من المغضوب عليهم في ما تعلق بخراب مدائن الألحان الخالدة السودانية، لكن لأن الأغنيات لا تمثل امتدادا شرعيا لذوق جيل الستينات والسبعينات، بل هي تشويه متعمد لما يمكن أن يكون عليه ذوق الجيل الحالي! والجيل الذي اختارت (هارموني) أن يمثله مجموعة من الشباب المغني، بجانب تمايز حلقة بصحفي وشاعر وأخرى بفنان من الجيل القديم وأخرى بفنان شاب من الجيل الأقل قدما، وبأسئلة فطيرة من معديها الموحدين لكل برنامج مما يبين بما لا يدع مجالا لظن أنها تعاني من فقر الفكرة بجانب فقر القدرة على الانتاج، هو جيل كامل لا يمثله مؤدون أو (غنّايون) - إن صحت التسمية - مجرد مرحلة عمرية لا علاقة لها بالنضج أو الثقافة المكتسبة من المجتمع أو حتى التربية المتبعة داخل الأسر، هو جيل وضح أنه لا يهتم بمستوى الإضاءة الساقطة عليه ولا بمعنى الاستضافة على شاشة فضائية متاحة للكل داخل وخارج نطاق الإقليم والعالم، جيل كامل مثله المخرج والمذيعة والمشاهدون! فما شاهدناه من مغالطات لا ترقى لمستوى النقاش المحترم ومن تدوير ولعب على كراسي هي في أصل صنعها مصممة للبارات لكن لأن ذوق جيل مصممي ديكور الفضائيات خالٍ من التجديد والأفكار والتصميمات ويلجأ لما هو جاهز بغض النظر عن راحته للضيف وارتباطه بثقافتنا المحلية، يُجلسون الضيوف في مقاعد ثم يحدثهم مذيعو الصدفة أحاديث تجعلك تكمل بخيالك موقع الكأس على حافة البار! وما سمعناه من غناء تم تبريره وتفكيك شفراته الجملية على أنه لغة جيل وما رأيناه من نظرات وضحكات و(سفات) على حافة أفواه (الغنايين)، يجعلنا نعرف تماما لماذا تم إفساد الذوق العام وليس ذوق الجيل هذا أو ذاك فقط! ببساطة إنها فلسفة أن لا يرى الجيل حقيقة الأشياء.. أن يتم في مرحلة من المراحل تغييب تام للثقافة السودانية ثم فجأة ينهض فارس همام لينادي بها لكأنه كان في رحلة خارجية لإنقاذ ضفائر أميرة من السقوط في بئر غناء هابط! ويشرع ذات الفارس في سنّ سيفه لقطع رقبة كل من تسول له نفسه أن يهبط بالغناء أو كرة القدم أو التمثيل الى دون مستوى الحدث والحديث، فمال الجميع إلى اليمين يمدحون الرسول عليه الصلاة والسلام بذات تكنيك غناء السيرة وزفة العروس! يعرضون في زفات الانتخابات بذات ترتيب العرضة في بيوت الأعراس، يغنون في الحفلات الخاصة والشقق المغلقة بنفس نغمات الحفلات العامة ونفس الحركات، يمثلون علينا مفاهيم الوحدة والتمازج والانصهار العرقي لكن بوجوه وسحنات غير التي ينادي لها المتمردون بالحرية! إنه ذوق شعب وليس جيل، إنها حالة من الفوضى في الأخلاق قبل الأغنيات، إنها حالة من فرقعة السياط دونا عن الأصوات، إنه صنع أيدينا حينما جاء كل ذاك من تحتنا وفوقنا وما بيننا وسكتنا عنه ملقين اللوم كاملا للجيل المتفلت وغير الوطني! الذي يستمع الى (حماقي وتامر وشيرين) ويحضر في سينما المول - حيث لا سينمات غيرها - أفلام (حلمي والسقا وهنيدي، وغالبا كولن فارول) وفي أفضل حالات سودانيته يصرخ خلف (قرقوري وأولاد الصادق والبنا وطه) وبالضرورة يرقص على هزات (مونيكا وهايمونيت وعجرم السودانية!) فهل هبط هؤلاء المغنون من الفضاء هكذا عبر سفينة من خيال علمي؟ هل نبتوا شيطانيا حينما كنا نحن نحمد الله على نقاء اغنيات الخالدين سبحان الله.. أليسوا هم من صنعنا نحن على كافة المستويات، فحينما يقرر فنان كبير بعد أن يقرأ له أحدهم القانون القديم والجديد أن يقاضي شابا في أغنية عاجلة على فمه تمهيدا لأخرى سريعة ومجهولة الشاعر والملحن كنوع (حمادة ده) في حفل زواج ميمون، أليس هذا عكسا لذوق جيل الفنان الكبير؟ وحينما يسب فنان قديم الفنانات القادمات بقوة أليس تعبيرا عن ذوقه في ذاك الجيل؟ وحينما تقرر القنوات السودانية بلا أي آليات إنتاج وصناعة العمل التلفزيوني وبلا أي استراتيجية ولو شهرية أن تعيد وتزيد وتشحد بما قامت به من سبق وتنتج سهرات وبرامج لا يمكن تصنيفها حتى في قسم الذوق العام؛ أليس هذا سوطا على رأسنا يغشينا من شدة الألم على ظهرنا فلا نستطيع مشاهدة العرض الأول ولا المعاد ويفقدنا القوة والقدرة على رؤية ما قامت به من أشياء في السهرات والاغنيات دعك من تمييزه أصلا كذوق أو جيل!