تتسارع الخطى، وتمضي الأيام، ويتناقص الزمن، وقلوب وعيون أهل السودان تنتظر وبشيء من الخوف والقلق والتوتُّر نتيجة الاستفتاء والذي سيُقام في موعده في التاسع من يناير العام القادم، وفقاً لتصريحات وتأكيدات شريكي الحكم، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. واتفاقية نيفاشا، والتي تم توقيعها في عام 2005م، وهي ما يُطلق عليها اتفاقية السلام الشامل، أعطت سكان الجنوب حق تقرير المصير، وذلك بإجراء استفتاء يعبرون من خلاله أما عن الوحدة أو الانفصال، علماً بأن الاتفاقية أشارت لأهمية خيار الوحدة الجاذبة والعمل على تحقيق هذا الخيار وتعميقه في النفوس، ولو تُرك الخيار أيضاً لأبناء الشمال وبذات القدر ولمعرفة رأيهم في دولة المستقبل انفصال أم وحدة، أو أعطت الاتفاقية الخيار لكل أبناء الوطن شماله وجنوبه، لاختار سكان الشمال الوحدة لإيمانهم العميق بأن الوحدة هي صمام الأمان، وأن التنوع الثقافي والإثني والقبلي هو مصدر القوة والمنعة والتلاقي والتلاقح بين أبناء الوطن الواحد، سيختار أبناء الشمال الوحدة رغم أن الجنوب ظلّ عبئاً ثقيلاً على الشمال منذ خروج المستعمر، حيث ظلّ مشروع الجزيرة البقرة الحلوب والأول في صادرات السودان، بجانب الصمغ العربي والسمسم وزهرة عباد الشمس، كنا بهذه الصادرات أحسن حالاً، وأكثر استقراراً وأطيب معيشة وذلك قبل أن يُكتشف البترول قبل عدة سنوات ويساهم في تأجيج الجفوة والخصام بين أبناء الوطن الواحد. قادة الحركة الشعبية، وأعني صقورها والنخبة منهم فات عليهم جميعاً، بل وتناسوا مع سبق الاصرار والترصُّد توجهات مبادئ وأهداف العقيد الدكتور جون قرنق والذي اختطفته يد الأقدار والوطن في أمسّ الحاجة إليه. قادة الحركة الشعبية ينادون بالانفصال، ومن فرط لهفتهم له يطالبون وبإصرار ألا يتأخر هذا الاستفتاء عن موعده. وقد بدأوا بالفعل في وضع ترتيبات دولتهم الجديدة والاتفاق على اسمها في عدة أسماء مقترحة، كما أنهم اختاروا نشيدهم الوطني، بل وتمت تهيئة أبناء البسطاء للانفصال وذلك بتصريحاتهم وأحاديثهم المكررة لأجهزة الإعلام سواء في الداخل أم الخارج. أحدهم صرّح قائلاً إن أكثر من 90% من أبناء الجنوب يريدون الانفصال وآخر تمشدق بملء فِيه أن مسألة الانفصال مسألة وقت لا غير، الحركة الشعبية تستورد الدبابات والطائرات العمودية والولايات المتحدة تتبرع لها برصف طريق جوبا - يوغندا بتكلفة 200 مليون دولار، لم يتبقَ من الانفصال سوى تحديد اليوم حتى يكون يوماً تاريخياً يحتفلون به سنوياً هكذا يتطلع قادة الحركة الشعبية للانفصال، وفات عليهم وهم في غمرة فرحهم بقدوم ذلك اليوم، أن تبعات وإفرازات الانفصال ستكون وبالاً عليهم وجحيماً لا يُطاق. كل أبناء الوطن، لا سيما في شماله يعيشون في حالة من القلق والترقُّب والانتظار بل هناك إحساس داخلي في وجدانهم بأن خلف الكواليس ما هو مخيف ومرعب، وأن هناك شيئاً ما يصعب تحديده سوف يحدث، وهناك من تظلله غلالات الحزن والأسى من أبناء الشمال على ذلك الطابور الطويل من الشهداء والذين روت دماؤهم الطاهرة أحراش الجنوب وغاباته منذ أن بدأ التمرّد في توريت في أغسطس عام 1955، أولئك الرجال الأبطال الذين ظلّوا حُراساً أقوياً على وحدة التراب، ورفضوا في شهامة وجسارة أن يتراجعوا شبراً واحداً، بل ظلت كتائبهم تواصل السير والاندفاع في غابات الجنوب وتخوم النيل الأزرق. واستطاعوا في بسالة نادرة، وشجاعة ظاهرة أن يحافظوا على وحدة البلاد واستقرارها، ودفعت القوات المسلحة بلفذات أكبادها في أتون هذه الحرب فكانوا وقودها وزيتها وسراجها الذي لم ينطفئ، تدفقت الدماء الغزيرة من رجال القوات المسلحة لتروي شجرة الوحدة والوئام، واحتفت أرض الجنوب وضمت بين ضلوعها أشرف الرجال وأعني الهامات، وتتداعى في الخاطر صور العديد، العقيد رضوان آدم سرور بلونه الأبنوسي وضحكته المجلجلة. الفتى النحيل ابن دارفور المقدم آدم ترايو أحد أبطال الميل 40، نسر الجو الشجاع العميد طيار مختار محمدين والذي ظل حريصاً على أداء دوره القتالي بكل صبر وثبات إلى أن احترقت طائرته الهجومية بصاروخ سام 7 اللعين، العميد البلاع الضابط الشجاع والرجل الأسطورة ابن شندي، النقيب محجوب موسى، والضابط الهميم تولا، الذي فقد بصره ورفض أن يغادر مكانه وقال لجنوده الأشاوس قبورنا خنادقنا، وابن اختي الشاب اليافع الذي غادرنا إلى مناطق العمليات ثاني أيام عيد الأضحى المبارك رافضاً الانتظار بالخرطوم الملازم عبد الباقي العشا الحسن الذي أُستشهد في منطقة ليريا وهو وسط جنوده يتناولون وجبة ساخنة فإذا «بدانة» تهبط عليهم بلا استئذان وتتدفق دمائهم الذكية عبر الأحراش وسيقان الأشجار!! صور الملاحم البطولية النادرة كثيرة ومتعددة ونابضة بالحيوية والمواقف الرائعة. هكذا ظلّ أبناء الشمال يدفعون ثمن الوحدة والاستقرار من دمائهم وأرواحهم سنوات عديدة ليأتي في خاتمة المطاف من ينادي ودون حياء بالانفصال والاستقلال التام عن الشمال. سيظل أبناء الشمال أوفياء لوحدة الوطن والتراب وإذا سألت أحدهم عن الانفصال سيكون رده القاطع أن قوتنا تكمن في وحدتنا وأن عزتنا تبقى في تماسكنا، وأن أرض الأجداد والآباء في حدقات عيوننا وفي قلوبنا. وهنا لابد أن نقول بالصدق كله والصراحة كلها إن اتفاقية نيفاشا أعطت الجنوب أكثر مما يستحق الأمر الذي جعل قادة الحركة الشعبية يتمادون في طلباتهم بل واستغلوا طيبة وسماحة أهل الشمال لينالوا أكثر بل منهم من دفعته المصالح الشخصية والمنافع ذاتية ليقف حجر عثر في وحدة البلاد أرضاً وشعباً. ولابد في الختام أن نشير أنه إذا تم الانفصال بتوجيهات ورغبة قادة الحركة الشعبية ودون إرادة المواطن الجنوبي البسيط، فإن لأهل الشمال كلمة سيقولونها وبالصوت العالي لأنهم فعلوا المستحيل من أجل الوحدة بين أبناء الوطن الواحد، وعندما غابت عنهم بسبب تعنُّت وإصرار قادتهم فإن الواجب بل الواقع يحتِّم عليهم أن يلتفتوا لبناء دولتهم في الشمال وذلك بعيداً عن العواطف والمجاملات وربما اعترانا الحزن والإشفاق معاً لفراق إخوة أعزاء لنا وهم يتجهون جنوباً لبناء دولتهم وفق رؤية قادتهم ونحن هنا في الشمال سوف نشد الساعد ونشحذ الهمم لبناء ونهضة السودان.. ورغم ما جاء في هذا المقال إلا أنني لازلت أؤمن بوحدة السودان آملاً أن ينزاح هذا القلق والتوتر من النفوس وأن يطل علينا صباح جديد يحمل في طياته أفراح الوحدة والسلام والوئام وأن يتخلى دعاة الانفصال والتشتُّت عن هذه الأفكار كما أن التصريحات التي أدلى بها العديد من رموز وقادة المؤتمر الوطني حول المواطنة وحقوق المواطن الجنوبي بعد أن يتم الانفصال إنما هي ترجمة لما يعتمل في نفوس أبناء الشمال إذا حدث ذلك الانفصال الذي لا يتمناه أبناء الشمال والبسطاء من سكان الجنوب. { بعض الرحيق اللون الأزرق هو لون السماء والماء القُراح... أما اللون الأبيض فهو يرمز إلى الصفاء والنقاء والبراءة، وما أبهى ملائكة الرحمة وهم في هذا الزي الزاهي.. أنا أتحدث عن الأزرق الدفاق وهو يواجه اليوم فريق الاتحاد الليبي، قلوبنا ودعواتنا وأكفنا مرفوعة من أجل أن ينتصر هلال الملايين، أمنياتنا اليوم أن تزغرد الحرائر، ويفرح الأطفال، ويشدو الصغار ويتغنى الكبار بانتصار مستحق، وفوز كبير، مع ترحيبنا الحار بالإخوة الليبيين في وطنهم الثاني.