يوماً إثر يوم؛ يتراءى الانفصال كفرضية لا منافس لها في مستقبل الدولة السودانية، بعد أن كانت، وحتى وقت قريب جداً، عبارة (الوحدة الجاذبة) هي المسيطرة على الساحة، عقابيل توقيع اتفاق السلام بين الشمال والجنوب. كان الجميع يطرب لنغم العبارة ويؤمن بالخيار، كل من نادى بالانفصال يومها كان يغرد خارج السرب، غير أن الخيار النقيض ثبت قواعده اليوم، وأصبح من يتحدث عن الوحدة يتحدث على استحياء، وانقلبت كل الموازين! ثلاثة أشهر تحول بين الحركة الشعبية وتهديدها بإعلان الاستقلال من داخل برلمان الجنوب، ومع زيارة وفد مجلس الأمن لمدينة جوبا منذ يومين؛ أكد «سلفاكير ميارديت» رئيس حكومة الجنوب أنه سيقيم الاستفتاء بمفرده إذا عارض المؤتمر الوطني في قيامه! مؤشرات خطيرة خلاصاتها لا تبارح عند أفضل المتفائلين أن الطرق كلها تقود إلى دولتين! وفي أعقاب اجتماع نيويورك الذي عقد على هامش اجتماعات الأممالمتحدة الأخيرة، باتت الرؤية أكثر وضوحاً، فبعد رجوع رئيس حكومة الجنوب من هناك أطلق تصريحاً من العيار الثقيل، بأنه سوف يصوت للانفصال لأن خيار الوحدة لم يعد جاذباً. الحديث الآن كيف سيتم هذا الانفصال؟ وهناك أمور عالقة لم يتفق عليها بعد، مثل ترسيم الحدود واستفتاء أبيي؟ فما زالت الحركة متمسكة بتصويت قبيلة «دينكا نقوك» فقط، في حين أن المؤتمر الوطني يشترط مشاركة قبيلة المسيرية أيضاً في التصويت. بروتوكول أبيي نفسه لم يحدد من له حق التصويت، قال «أهل المنطقة»، ولم يحدد. والحركة تعتبر أهل المنطقة هم دينكا نقوك فقط. هناك اجتماع الآن في أديس أبابا لحسم هذا الأمر، ولكن مؤشراته غير مبشرة؛ لأن التصور المقدم به مفصل لصالح دينكا نقوك، على حد تعبير المؤتمر الوطني وبعض المراقبين. كانت هناك أصوات داخل المؤتمر الوطني تؤكد وإلى وقت قريب بأن كفة الوحدة هي الراجحة في النهاية، وبأن هناك أصواتاً مرتفعة في الجنوب تدعو للانفصال ولكنها قليلة في مقابل أصوات كثيرة تؤيد الوحدة ولكنها خافتة، هذه الأصوات الآن بدأت تتراجع؛ لأن الانفصال أصبح أمراً واقعاً، ولكنهم يتحدثون الآن عن أنهم سيعملون للوحدة رغم يقينهم أن هذا الحديث شكلي ونظري، ولكن ربما حفظاً لماء الوجه بأنهم عملوا ما في وسعهم لجعل السودان موحداً. على جانب الحركة الشعبية أصبح الأمر أكثر وضوحاً، فالمجتمع الدولي أعطى الضوء الأخضر والمساندة، وعلى مستوى الجنوب فلهم السيطرة الكاملة ولا يمكن لأية قوة سياسية أخرى أن تدعو للوحدة، فالمصير هو السجن والتعذيب، فهناك تصريحات كثيرة للقوى الجنوبية المعارضة بأنه لا يستطيع أحد القيام بأي حملات توعية داخل الجنوب. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أخذت الحركة الشعبية الضمانات من المجتمع الدولي بالحماية والمساندة لجنوب ما بعد الانفصال؟ الرؤية في جنوب ما بعد الانفصال واضحة تماماً للمراقبين بأنه سيشهد حرباً أهلية طاحنة، وأطماعاً كبيرة من دول الجوار، فهل ستترك قبيلة النوير التي تسيطر مناطقها على آبار النفط بالجنوب الحكم للحركة الشعبية؟ وهل سترضى باقي القبائل بهذا الوضع؟ ذلك بالنظر إلى التمرد في الجنوب الذي بدأت معالمه تتضح بقوة داخل الجيش الشعبي نفسه بقيادة «جورج أطور»، هل سيسكت جيش الرب الأوغندي في هذه البيئة الصالحة لتحركاته؟ والسؤال الأهم: هل الخرطوم نفسها ستقف متفرجة على هذا المشهد؟ أليست لها مليشيات بالجنوب ربما قد تحركها لتعكير صفو الحركة الشعبية؟ والسؤال المؤكد: هل سيبقى «سلفاكير» نفسه حاكماً لدولة جنوب ما بعد الانفصال؟! أسئلة كثيرة يراها المراقبون مؤكدة، فهل تراها الحركة الشعبية وزعيمها؟ أم أنهم يسيرون وراء أكذوبة المساندة الدولية؟ وعلى مستوى الجوار أليست لأوغندا أطماع في الجنوب؟ نيروبي نفسها تفكر في إنشاء ميناء على المحيط الهندي والهدف الرئيس هو تصدير نفط الجنوب! يرى المراقبون أن الحركة الشعبية تسير الآن في خط إعلان الانفصال منفردة، والمؤتمر الوطني، فقد قال «علي عثمان محمد طه» نائب رئيس الجمهورية إنه سوف يصعب الاستفتاء قبل حسم أبيي، في إشارة مؤكدة أن الاستفتاء لن يقوم في موعده رغم تأكيد «الوطني» على ذلك، ويؤكد المراقبون على أن منطقة أبيي الفاصلة بين شمال السودان وجنوبه ستكون كشمير أفريقيا. القارئ الآن للأوضاع بدقة يرى أن «الوطني» يجر «الشعبية» لإجراء استفتاء بمفردها أو إعلان انفصال من طرف واحد حتى يطرق على باب أنه انفصال غير قانوني حتى لو اعترف المجتمع الدولي بدولة الجنوب، ولكن الأمر في النهاية سيظل معلقاً. في ظل هذا الزخم، أين الأحزاب السياسية الشمالية؟ هذه الأحزاب ظلت صامتة تنتظر ضياع الوطن وانقسامه لتؤكد أن الحزب الحاكم هو السبب وباعت نفسها للحركة الشعبية تلعب بها كما تشاء، فقد كسبت بها «الشعبية» كثيراً سواء أفي الانتخابات أم غيرها، ولم تسأل هذه القوى نفسها ماذا كسبت من تحالفها مع الشعبية؟ ولم يكن هدفها من هذا التحالف مع الحزب الحاكم بالجنوب سوى إغاظة «الوطني» ليخرج علينا «فاروق أبوعيسى» الناطق الرسمي باسم تحالف جوبا بأن المعارضة أخطأت في التعاون مع «الشعبية» وأن الأخيرة كسبت الكثير من هذا التعاون على حساب المعارضة، ويدعو الآن وقبل ثلاثة أشهر من حافة الهاوية بضرورة التحالف مع «الوطني» لحماية الوطن من المخاطر!! الآن، ولم تبق سوى ثلاثة أشهر فاصلة في تاريخ السودان، هل في ظل هذا الوضع المعقد ننتظر حرباً ستدور رحاها في المنطقة؟ هناك مؤشرات لهذا التصور، منها دعوة «د. مصطفى عثمان إسماعيل» مستشار رئيس الجمهورية للشباب بالاستعداد للحرب، وكذلك المناوشات التي تحدث الآن بين الجيش الوطني السوداني والجيش الشعبي على الحدود، وهذه المناوشات بالطبع لها ما بعدها. ويرى المراقبون في النسخة الكلية لهذا المشهد الضبابي أن الجنوب سوف ينفصل، وأنه سيكون مقراً لكل الحركات المتفلتة، وربما تأتي القاعدة أيضاً مع وجود الحرب الأهلية الضروس، ويرى جانب آخر من المراقبين أن الولاياتالمتحدة ستكون حذرة من هذا المشهد، وأنه ليس من مصلحتها إقامة فوضى خلاقة بالمنطقة، فتجاربها الفاشلة كثيرة في العالم ولا يمكنها التكرار مرة أخرى في جنوب السودان، ويرى جانب ثالث أن الغرب سيجعل من الجنوب المنفصل ثكنة عسكرية ببناء قواعده هناك وانطلاق حركات التمرد منه لقلع واجتثاث النظام الإسلامي الحاكم بالخرطوم الذي فشلت معه كل الحيل، ويؤكدون ما يتردد بأن الجيش الشعبي يدرب جنوداً من حركة العدل والمساواة بغرب دارفور بالجنوب استعداداً لما سوف يحدث بعد الانفصال. هناك رؤية أخرى باتت يقيناً لمن يمسك بتلابيب الحكم بالسودان، بأن العالم يرى أن الجنوبيين عاشوا غير أحرار لسنين طويلة، وأنه لن يستقيم الوضع إلا أن يتحرروا، وقتها يقررون هل هذه هي الحرية التي يرغبونها أم لا؟ ويراهن بعض القادة في السودان بأنهم سيتركون الجنوب يتحرر كما يشاء ولكنه سيعود مرة أخرى إلى أحضان الوطن! ويبقى أن الجنوب هو أول قطعة من أرض السودان سوف تنفصل، ولكنه لن يكون الأخير، فالسيناريو الغربي محبوك منذ زمن بعيد، ومهما تغيرت تفاصيله تبقى نتائجة المؤكدة، ويبقى أن مصر منحدرة في هذا السيناريو تابعة لما يحدث وليست صاحبة قرار، كان بإمكانها أن تعترض على انفصال الجنوب للمجتمع الدولي وهي دولة ذات تأثير بالمنطقة ولا يمكن للمجتمع الدولي أن يتخطاها، ولكنها وقفت مكتوفة الأيدي، كل ما فعلته هو محاولة إرضاء «الشعبية» مع ابتزازها الواضح للقاهرة بالتنمية ومياه النيل، وكان بإمكان القاهرة - كما يرى المراقبون - أن تكون واضحة معها، وأن تمنع على الأقل أي صوت جنوبي ينادي بالانفصال من داخل أراضيها، لكن على العكس من ذلك يخرج أبو الغيط وزير الخارجية المصري ليقول في تصريحاته إن الجنوب يتجه إلى الانفصال لأن الوحدة لم تعد جاذبة!! ليكرر بذلك ما تقوله «الشعبية» في تصريحاتها وكأنه أحد قادتها، وهو لم يكن يعلم أن الشعبية نفسها لا يمكن أن تتخطى مصر، ولا يمكن أن تتجاوزها حتى في ظل مساندة المجتمع الدولي لها.