لو انفصل الجنوب، لن تكون كل النتائج سلبية، ولو بقي فلن تكون كل النتائج إيجابية، ولذلك، أجد بعض العزاء لنفسي، وأنا أسمع الاتجاه الانفصالي يبدو الأعلى صوتا، فلا حول ولا قوة إلا بالله ! حتى وقت قريب، كنت أظن أن أسوأ ما عاشه جيلنا، هو هزيمة 67، كان ذلك أيام كنا نعتقد أن معركة واحدة فاصلة، ستمكننا من سحق إسرائيل، واستعادة فلسطين، وكانت العزائم على أشدها، والنفوس تتحرق شوقا ليوم اللقاء، فإذا باليوم يأتي، وإذا بنا نصحو على الكذبة الإعلامية الكبرى، والحلم الخادع الذي عشناه سنين عددا، لنتجرع هزيمة عربية ماحقة، ما زالت جراحها نازفة رغم ضمادات السنين، ورغم جرعات المورفين المتواصلة، التي ظللنا نتناولها مع الأيام لتسكين الوجع المرير ! كنت أظن أن ذلك كان نصيبنا من المرارات، وهو نصيب فادح، ويكفي أي جيل أن يبتلى بذلك النصيب، ليكون قد أخذ حقه كاملا غير منقوص من المصائب ! لكننا، والله، لم نكن نعرف أن (التقيل ورا)، وأننا سنعيش واقعا أشد مضاضة من وقع الحسام المهند ! خلافات، انقلابات، تداول سلمي أو دموي للسلطة، شمولية، دكتاتورية، ديمقراطية .. كله كان أمرا هينا، لأننا لم نكن أمام معركة بقاء للوطن، فإذا بنا الآن أمام (أم المعارك) .. وهي بقاء السودان أو انقسامه ! حتى شريك الحكم .. الحركة الشعبية، ركبت الموجة، أو قادتها، لا فرق، فتنصلت من جعل الأولوية للوحدة، وجعلت عينها على الانفصال وفقا لحسابات خاصة، دون سماع لرأي العقلاء، بفداحة الأثمان التي يمكن أن يدفعها الكل .. مهرا لانقسام السودان ! ومن الجانب آخر، وضح (رد الفعل) المتشنج في الخطاب الرسمي، وردود الأفعال المتشنجة، بالمناسبة، تشل التفكير السليم، وتقود المواقف لمواقع المواجهة لا التنفيس، فتصبح سمة الساحة الاحتقان، لترتبك الحسابات، وتضيع أصوات الحادبين، والساعين للوحدة من الطرفين، بل والمصوتين لها .. حين تأتي ساعة الفصل في اليوم الموعود. هل كان الواجب تقديم (تنازلات) إضافية لأجل عيون الوحدة ؟ تنازلات من الحركة، وتنازلات من المؤتمر الوطني .. تكون كلها من العيار الثقيل، ليبقى السودان واحدا، لأن وحدة البلاد غاية .. تفوق كل مكاسب آنية، أو انتصارات وهمية .. المهزوم فيها السودان وحده ! إن كان ثمة ضرورة لتنازلات شجاعة .. قد تحمل بعض المرارات، لكنها تحفظ وحدة البلاد، فمن يبادر بها، ومن يجعل المصالح العليا تهيمن، ليبقى السودان واحدا موحدا، قبل ضياع الفرصة .. ربما للأبد ؟ أحس أن التاريخ يقف الآن، منتظرا المواقف الكبرى، المواقف التي تتسامي وتترفع ليكون الانحياز وحده للسودان ولوحدة أرضه وشعبه وترابه. وأظن أن الفرصة موجودة، وأن إرادة القيادتين في الحركة الشعبية، وفي المؤتمر الوطني، ستبقى مؤثرة وكاسحة، مثلما كانت في الانتخابات الأخيرة، والتي أثبت فيها الطرفان هيمنتهما على الساحة دون منازع. المعجزات تحدث، وأصحاب القرارات الصعبة هم القادرون على تحقيق الانتصار في الزمن الرسمي .. أو الضائع. اجمعوا نقاط الخلاف، واخترقوها بشجاعة القرار، حتى لو كان التنازل مريرا، فحلاوة بقاء السودان .. ستزيل كل مرارة. أسرعوا، فالتاريخ فتح صفحاته للتدوين !