بداية أقول وبكل الصدق إن ما سأطرحه من رأي يجب أن يؤخذ بكل حسن نية وبعيداً عن السياسة والتحزب، لأن هذه المسميات ما عاد لها وجود خلال هذه الظروف.. وما سأقوله انطلاقاً من إشفاقي على هذا الوطن، ولا أعني منه مكايدة سياسية ولا شماتة على أحد، لأني أرى أن السودان الآن في حالة لا يحسد عليها وفي ظروف تتطلب أن نخلص من أجله النوايا وأن نتخلص من سوء الظن وعدم الثقة في كل رأى أو حديث بأنه يأتي من منطلق انتماء حزبي، ونكرر ونسبة لظروف السودان وما يحيط به يجب أن تنتهي كل النظرات الحزبية الضيقة. وقد تعلمنا هذا من مدرسة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني ووطنيته المخلصة والصادقة، وما له من بعد نظر، فقد ظل يكرر دائماً وفي كل لقاء معه ويقول: إن السودان في خطر ويتعرض لمهددات أجنبية، ويقول لنا دائماً إنه يرى الوطن أولاً والوطن ثانياً ثم يأتي الحزب.. وقد كنا نقف عند هذا القول والبعض يرى في حديث سيادته تجاهلاً لأمر الحزب، ولكن مولانا قد كان يرى ببصيرته النافذة أن السودان مقبل على واقع لا يقبل الانحياز الحزبي، بل كان يطالبنا بالنظر لقضية الوطن، وكان يكرر الحديث عن الوحدة وجمع الصف الوطني.. والآن فإننا نعيش تماماً في ما كان يتنبأ به مولانا الميرغني ويتوقعه.. ولذلك فإني أقول كلمة حق يجب أن يتقبلها أنصار المؤتمر الوطني«إنكم وحدكم سبب كل ما لحق بالسودان، أو الذي سيلحق به حالياً أو مستقبلاً، إن كان فيه الخير أو الشر، وكله محسوب عليكم، ولهذا عليكم أن تعترفوا هذه الحقيقة، وأن تعلموا بأن هذا الوطن الكبير وعلى مستوى المليون ميل مربع يسع غيركم وفيه شعب وجماهير لا تنتمي لكم ولا تقبل أن تأتمر بأمركم.. ولذلك لابد من الاعتراف بهؤلاء بأن تكون لهم الكلمة والرأي في كل ما يهم هذا الوطن، وخاصة في هذه الظروف التي نحتاج فيها لتوسيع دائرة المشاورة لكل أصحاب الرأي في هذا الوطن، لأني أرى أن الواقع الذي يعيشه السودان وشعبه هذه الأيام هو واقع مرير وغريب أو غير مريح، وهناك علامات استفهام كثيرة عن المستقبل ولا تجد الإجابة.. والحقيقة أننا ما كنا نتوقع أن يأتي للسودان يوم بأن يكون مستقبله مجهولاً أو كما يقول المثل في «كف عفريت»!!وما كنا نتوقع وبسبب هذا المجهول أن نعيش في حالة من القلق والخوف وعدم الاطمئنان.. ونحن نجتر الحديث ونتوقع كل شيء وخاصة الحرب وإراقة الدماء لا قدر الله، وذلك بسبب ما سيحدث من انشطار أو انقسام في وحدة بلادنا وفي وحدة ترابها وشعبها، لأن الانفصال الذي نتوقعه والذي سوف يتحقق بما سُمي باتفاقية نيفاشا والتي كانت قد انعدمت فيها كل أسباب الحيطة والحذر.. ولم تكتب فيها الشروط القوية التي تحد من الانفصال، وإذا حدث يكون سلمياً ولا يحدث منه مكروه، رغم أن الاتفاقية قد تم توقيعها بعد مفاوضات قد أخذت الكثير من الزمن.. ورغم ذلك فإن أهم البنود التي تم إهمالها هي الحدود بين الشمال والجنوب فلم يتم تحديدها بشكل قاطع، وهذا نتوقع أن تحدث فيه خلافات قد تقود إلى الحرب لا قدر الله، كما أنه قد تم إهمال تحديد مصير كل دولة في ما هو نصيبها من البترول وهو مصدر الدخل الأساسي الذي يعتمد عليه في الشمال والجنوب. وهذا ما نتج عنه الكثير من القلق بين أهل الشمال هذه الأيام، وهم يتحدثون عن مستقبلهم بعد الانفصال وهم يعلمون بأنهم لا يملكون مصادر للدخل ذات قيمة غير عائد البترول والجميع يتحدثون عن مؤشرات لحدوث تدني اقتصادي ربما لا تتوفر معه لقمة العيش وهو الرغيف الذي بدأت الأزمة فيه منذ الآن، وأيضاً «الكسرة» التي بشَّرهم بها السيد وزير المالية قد تصعب بعد أن تم فتح باب التصدير للذرة بحثاً عن العملة الصعبة أو الدولار. ومن مخاطر بلادنا أيضاً قضية دارفور المعقدة والتي نتوقع بأن تكون مشكلتها قائمة حتى بعد تقرير المصير، لأننا نرى قيادات دارفور المحاربة قد رحلت إلى جوبا ونراها متفقة مع الحركة الشعبية.. وهذا معناه أن تزداد مشاكلنا بظهور أصوات دارفورية تطالب بتقرير المصير، والأخطر والأسوأ من كل ذلك أن قرارات المحكمة الدولية لازالت تلاحقنا وفي إصرار، كما نرى قوى الاستكبار الأمريكي تشجع كل ذلك وتقف وراء الحركة الشعبية وتدعمها لاستعجال الانفصال، لأنها تريد من ذلك تشتيت السودان وإلحاق الضرر به، لأنها ومنذ زمن طويل قد استهدفتنا ورأت بأننا نهدد أمنها، وكان قد تم تصنيف السودان بأنه دولة إرهابية، وقد حدث ذلك منذ أن كانت بلادنا تستضيف زعيم الإرهاب في العالم بن لادن.. وهذا كله قد حدث لنا في عهد الجبهة الإسلامية و«يا أمريكا لمي جدادك».. إنها صورة من واقع بلادنا القاتم والذي يجب أن نتحدث عنه بكل الوضوح والصراحة، على الأقل لمراجعة موقفنا لأني أرى بأننا لا ننظر لهذا الواقع بمستوى من الجدية التي يستحقها، ونحن نتحدث وكأن الانفصال لن يتم، ولكن نراه من إصرار الحركة ومن ورائها الأيادي الأجنبية، فالذي يجب أن نفكر فيه ضرورة الوحدة الكاملة بين كل فئات الشعب السوداني.. وأن نفهم بأن الانفصال سيحدث والواجب أن نعمل لما بعد حدوث الانفصال لنقف صفاً واحداً ضد المهددات المتوقعة.. ولكن لا أرى هناك اهتمام أو وضع الحيطة والحذر لكل شيء، وخاصة حكومة الحزب الواحد، وهو حزب المؤتمر الوطني الذي ينفرد بحكم السودان، لأنه قد عمل ومع سبق الإصرار والترصد على إبعاد كل الأحزاب من المشاركة في حكم البلاد معهم، ورغم ما حولنا من مهددات ومخاطر فإن حكومة المؤتمر الوطني لم تراجع موقفها بعدم اعترافها بالآخرين ولم تخفف من قبضتها الحديدية حتى في إعطاء الرأي والمشورة في مثل هذه الظروف التي تحيط بالوطن.. والغريب أن قيادات المؤتمر الوطني ورغم أنهم ينادون بوحدة الصف، لكننا لا نرى مع هذا بعض التنازلات أو شيئاً من التواضع للإحساس الدائم بأنه لا يوجد في البلاد إلا هم.. ونسمع من التصريحات التي لا تنطق إلا من الأنا، وفي هذه الظروف نسمع في الإعلام عن استقالات من الأحزاب وانضمام للمؤتمر الوطني، وهذا بكل أسف جهل مخجل بواقع البلاد الخطير والمخيف والذي ينبيء إذا لم تتوحد صفوفنا ضد ما يستهدفنا من مخاطر فلن تكون أحزاب ولن يكون هناك مؤتمر وطني.. وآخر ما سمعناه تكرار الحديث حول إصرار المؤتمر الوطني على استمرار الوضع الراهن من الحكومة وتوابعها بعد الانفصال، وقد سمعنا هذا من الأستاذ علي عثمان محمد طه، وكرره قبل أيام الدكتور نافع في لقاء تلفزيوني.. ونعتقد أن مثل هذا الإصرار يخالف الواقع لأن السودان بعد الانفصال الأمر فيه سيكون مختلفاً تماماً، والحكومة الراهنة التي يطالب المؤتمر الوطني باستمرارها قد تم تكوينها عندما كان السودان واحداً موحداً، أما بعد الانفصال فإن الأمر لابد أن يتغير.. كما اؤكد حقيقة مهمة بأن كل الأحزاب خارج السلطة لا اعتقد أنها تفكر في الدخول أو المشاركة في حكومة في هذه الظروف.. ولا ننادي بحكومة قومية فليبقى المؤتمر الوطني في حكومته وبالأفراد الذين يريدهم، على الأقل نريده أن يحصد ما زرعه من موافقته على تقرير المصير وانفصال السودان، رغم أن الحصاد سيكون ضرره على كل أفراد الشعب السوداني، ولكننا نريد أن يكون الضرر خفيفاً، لذلك فالواجب التنازل عن فكرة استمرار الحكومة الموجودة بكل حجمها، واستمرار حكومة بذات العدد من المشاركين فيها بكل المسميات من نواب رئيس ومستشارين وولاة و وزراء في الحكومة الاتحادية والولائية.. هذه الوظائف تعتبر عبئاً كبيراً على ميزانية ضعيفة ليست لها موارد كافية، وهي مع هذه الوظائف قطعاً سوف تفشل في توفير القوت الضروري للمواطنين، إن استمرار حكومة بهذا الحجم وضع غير مقبول وكذلك لا معنى لوجود أعضاء المجلس الوطني لأنه لا دور لهم يؤدونه، والواجب تسريحهم فوراً والاستعانة بمجلس استشاري قومي، وأن يكونوا من الرجال أصحاب المقدرة والتضحية الذين لا يحتاجون لمرتبات أو مخصصات.. وهذا الاقتراح أرفعه للسيد رئيس الجمهورية وبشجاعته المعهودة بأن يُثني هذا الاقتراح باختيار حكومة تتكون من عدد قليل من الوزارات ذات الأهمية، وأن يتم وقف الصرف السياسي على الذين يدعمون حزب المؤتمر الوطني مثل اتحادات الطلبة والشباب ووقف المسيرات والمهرجانات التي تستنزف ميزانية الدولة.. وإني اتقدم بهذا المقترح آمل أن يجد الاهتمام ولا يقابله أصحاب المصلحة الخاصة بالاستهانة والاستخفاف، وأن تستمر هذه الحكومة بهذا المستوى من تخفيض هذا العدد الكبير حتى يسترد السودان عافيته وتتسع مصادر دخل ميزانيته.. وحتى تتمكن الحكومة من توفير القوت الضروري لأهل السودان، و إني أتقدم بهذا المقترح لأهل المؤتمر الوطني لوجه الله ومن أجل هذا الوطن الجريح، وأقولها نصيحة إنهم إذا لم يعيدوا النظر في الحكومة الحالية فإن مصيرهم سيكون الفشل ولن يجدوا الاستقرار لحكم السودان، بل سيجدون أنفسهم في واقع يبحثون فيه عن مخرج ولن يجدوه.. ونأمل من السيد رئيس الجمهورية أن يعمل لتحقيق هذا المقترح، والذي نقوله وكما أسلفت دون غرض إلا مصلحة السودان الذي نتمنى له التوفيق في كل خطواته لإفشال مخططات الأعداء.