كان النظام الذي ثِرنا ضده في أكتوبر 1964م وأسقطناه نظاماً عسكرياً، وعندما توّلى ذلك النظام الحكم في نوفمبر 58 كان معظم القارة الإفريقية خاضعاً للاستعمار وكان السودان من الدول التي حققت استقلالها مبكراً في القارة الإفريقية. وعند مولد الدولة السودانية المستقلة منتصف خمسينيات القرن الماضي اختار الشعب أوصفوته وبمعنى أدق النظام الديمقراطي على النمط البريطاني، لكن التجربة الديمقراطية لم تستمر سوى سنتين وعشرة شهور تقريباً. وعندما وصل الفريق إبراهيم عبود إلى الحكم في 17 نوفمبر 58 كان قد سبقه في العراق بحوالي أربعة شهور انقلاب عسكري دموي قاده الضابطان عبدالكريم قاسم وعبد السلام عارف وكان من أهم النتائج الفورية لذلك الانقلاب إعلان الجمهورية وإلغاء النظام الملكي الهاشمي الذي أسسه فيصل بن الشريف حسين. والحقيقة أن البريطانيين هم الذين أسسوا ذلك النظام وهم الذين نصبّوا فيصل ملكاً على العراق. وقد أُعدم النظام الانقلابي الذي أصبح اسمه ثورة 14 تموز العائلة الهاشمية المالكة ورئيس الوزراء نوري السعيد. وقبل انقلاب 14 يوليو 58 الذي حدث في العراق كان هناك انقلاب أشهر وأكثر تأثيراً هو الانقلاب الذي نفّذه الضباط الأحرار في مصر بقيادة المقدم جمال عبدالناصر يوم 23 يوليو 1952م وأيضاً اشتهر هذا الانقلاب باسم ثورة يوليو 52. وكان عبدالناصر في ذلك الوقت من عام 58، تاريخ قيام الانقلابين العراقي والسوداني قد أصبح بطلاً قومياً تهتف له الملايين في العالم العربي من المحيط إلى الخليج. إذن.. وصل الفريق عبود إلى الحكم في 17 نوفمبر 58 وأمامه في العالم العربي تجربتان انقلابيتان، إحداهما مصرية شبه راسخة، والأخرى لم يتعدَّ عمرها بعد أربعة شهور. ولم يكن في بال النظام الجديد إحداث تغييرات جذرية في المجتمع وكان قصارى ما يطمح إليه استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار وإقامة علاقات طيبة متوازنة مع الجميع داخل السودان وخارجه وتحسين الوضع الاقتصادي وإنجاز قدر من التنمية. ولقد كان نظام الفريق عبود عسكرياً صرفاً، وكان في داخله حضور مدني محدود، ولو توسّع النظام أو لو أنه كثّف الحضور المدني في داخله لساعد ذلك في تخفيف العُزلة الداخلية التي كان يعانيها، ولربما أدى ذلك إلى إطالة عمره الذي كان ستة أعوام فقط إمتدت من نوفمبر 58 إلى أكتوبر 64. لقد كان إشتراك المدنيين خاصة الحركيين منهم بأعداد مقدرة في نظام الفريق عبود أمراً مهماً للغاية والأسباب كثيرة ومنها أنهم أي المدنيين الحركيين هم الذين أنشأوا مؤتمر الخريجين العظيم عام 1938م، وهم الذين أسسوا الحركة الوطنية وحققوا الجلاء والسودنة والاستقلال. ويُقال إنه كان من مشاريع الرئيس عبود أن يقيم تنظيماً سياسياً يسند قيادته إلى أحد المدنيين المرموقين لكن ذلك لم يتحقق إلى أن زال النظام في أكتوبر 64. وقالوا، ونعيد، إن من غرائب ثورة أكتوبر أن الفريق عبود ظلّ حتى سقوط نظامه رأساً للدولة وأن ثوار أكتوبر أدوا القسم أمامه!!