السجال الذي ظل يرهقنا بشكل دائم عن أطماع الغرب الكبرى في كنوز مواردنا الظاهرة والباطنة؛ لا يجدي في شيء بعد الآن. يجب أن نتوقف عن الحديث ونبدأ العمل، فالمعضلة ليست كما يبدو لنا في واقع الوحدة أو الانفصال، وإنما تكمن حقيقة في كيفية تغيير واقع الإنسان السوداني نحو الأفضل، الإنسان القادر علي التنمية والبناء والعمل؛ أهم من البترول والمعادن وما جاورهما. أرضنا الفتية الغنية الشاسعة لن تفيدنا في شيء على الإطلاق؛ إذا لم يلتفت الساسة الآن إلى هذا الإنسان وتفجير مقدراته الكامنة وإشعال الحماس في نفسه وروحه تجاه العمل. يكفي أنه عانى ما عانى من إهمال ممعن تكفل بتغيب دافع الإنجاز في حياته طيلة السنين التي انطوت من عمر حكوماتنا. الموارد البشرية هي التي تصنع الحضارة. كوريا الجنوبية لا تمتلك إلا رقعة أرض بالغة الصغر جلها جبال وهضاب وعرة، لا إمكانيات إلا بقدر ضئيل، ولكنها في الحقيقة لديها إرادة كاسحة جعلتها تصنع مصيرها بسواعد بنيها وساستها الذين أيقظوا المارد القابع في عمق الإنسان الكوري فاشرأب وسمق بقوة فكره وعزيمته، وحطم في وقت وجيز هياكل الركود والكسل، وشرع في بناء دولته رغم الحروب وقسوة التقسيم، وهيمنة القوى العظمى، فاستطاع هذا العملاق أن يحقق المعجزة الاقتصادية من رحم أراضٍ مقفرة، وإمكانيات ضعيفة شحيحة، والغريب أنه قد ذكر أن الحياة في كوريا الجنوبية بعد انفصالها عن الشمالية عام 1945م كانت أدنى مستوى بكثير من الحياة في السودان، فعلى مفكرينا وساستنا اكتشاف هذا اللغز وفك طلاسمه، كيف غدت كوريا الجنوبية بعدد هذه السنين من الدول الصناعية التي لا يشق لها غبار؟ وكيف تقهقرنا بعدد هذه السنين ولم نرتفع بعد بسقف القطاع الزراعي الذي يتكفل باكتفائنا الذاتي من الغلال أو الحبوب الأخرى؟ الكادر البشري لدينا استهلك على نحو متوالٍ منذ خمسين عاماً مضت في خضم الخدمة المدنية المتخلفة التي ظلت ترسف في دائرة المحسوبية والجهوية والحزبية؛ فتكلس على مقاعدها نفر غير جديرين بالمسؤولية، فانكفى على نفسه ومن معه، فلا إبداع ولا بناء قدرات ولا آمال عريقة ولا يحزنون، أخلاق العمل في جميع المؤسسات تظل غائبة، فتنتج عن ذلك مخرجات شحيحة لمجهود ضئيل، فلا يكفي أن تعلم الفرد عبر المناهج وتلقنه تخصصات علمية فقط من غير مفاهيم وقيم عليا تعزز دور العمل التنموي وتخرج به من نطاق المحدودية. الحروب والصراعات والأزمات التي ظلت تعصف بكيان الأمة السودانية ما كان لها أن تحدث إذا حظي الكل بذكاء القلب والنظر الصائب، ما معنى أن ترتاد فنادق ال «خمس نجوم» في بلاد الإفرنج كمعارض خارج حدود الوطن، ويصطلي من تجشمت همّ الدفاع عنهم بلهيب نار الصراع والخوف والشتات؟ ما معنى أن تخرج وفودنا شرقاً أو غرباً تبتغي معالجة أزماتنا بعيداً عن أرض الوطن والسودان لم ينضب معينه بعد من حكمائه وساسته لحشد التأييد الداخلي نحو السلام؟ ما معنى أن تتقلد المناصب ونافذتك التي ينبغي أن تطل من خلالها على الشعب موصدة تماماً؟ فإنك لن تقدم شيئاً للإنسانية إذا لم تشعر وأنت في حالة صحو كبير ورؤية متكاملة بالمشهد الحياتي الذي يكابده الناس، فالخطب العصماء وحدها لا تقنع ذا بصيرة، مثلما حدث في عهود سابقة أن ألهب سياسي بريطاني حماس الجمهور وهو يخاطبهم في قاعة اكتظت بهم عن بكرة أبيها، وأثناء ولعه بموضوعه قال إن خارج هذه القاعة تقف سيارة فخمة فإذا بيعت الآن لفكت ضائقة مئات الأشخاص في هذه القاعة، وعندما انفعل الكل وامتعضوا وتحرك بعضهم بغية تحطيمها؛ استدرك الرجل سريعاً وقال «عفواً سادتي انتظروا فهذه السيارة تخصني». فمن أكثر السبل التي توفق بين المسؤول وشعبه هي أمانته في حديثه وفعله، فالوحدة التي ينبغي أن توطن دعائمها الآن هي وحدة الإنسان السوداني وحكومته، ويجب أن نبدد سحائب الارتياب التي تخيم على الموقف بينهما. الحكومة لديها مسؤولية كبيرة تجاه مواطنيها في ما يتعلق بالاهتمام الكامل بحياتهم وتذليل العقبات التي تكتنف طريقهم، والمواطنون ملزمون بالتضحية والعمل من أجل إرساء دعائم النهضة التي ما فتئت تتأرجح على بندول السياسية المضطرب. فترسيخ مفهوم التعاون المشترك بين السلطة والشعب هو ما نروم في هذا الوقت العصيب، سلطةً قوية تمنح الفرصة لمن هم أكثر كفاءة وأصدق وطنية، وتسد الطريق أمام تدفق سيل «الهتيفة» وأصحاب الرؤى الذاتية الضيقة، وشعباً حصيفاً ينهض من غفوته وخجله وتردده ليدرك قطار الوحدة الذي قطع مسافات كبيرة في جميع الدول المتقدمة وخلف وراءه صناعات ضخمة ومشروعات عملاقة ورفاهية متزايدة، فأنا لا أقصد الوحدة التي قد تتمخض عن الاستفتاء؛ وإنما الوحدة التي تنم عن مقدراتنا الذاتية، الذهنية منها أو الإبداعية، وكيفية توظيفها في إطار المصلحة العامة في حالتي الوحدة أو الانفصال.