يصر صديقي على بيع عربته، ويؤكد أنه لن يتورط في سيارة بعد اليوم، لأن السيارات خربت بيته ! سألته عن السبب فقال : السيارات في كل الدنيا لتسهيل الحياة، لأنها توفر على الشخص معاناة المواصلات، وتكاليف اللجوء للتاكسي والليموزين، كما توفر وسيلة طوارئ لخدمة الأسرة والأهل وحتى الجيران عند الضرورة. أما في السودان، فلا يقدر على السيارة إلا أصحاب الجيوب المنتفخة، لأن البنزين، والزيت، وقطع الغيار .. كفيلة بتجفيف (أتخن جيب) .. عدا المقتدرين .. زادهم الله اقتدارا. سألته مرة أخرى عن سبب قراره، حيث أعلم أنه من المبحبحبن ماديا قياسا بالعبد لله، بل وأعتبره قريبا من فئة المقتدرين التي تحدث عنها، فقال : بصراحة .. البنزين والزيت وقطع الغيار العادية لم تخرب بيتي .. لكن الذي خربه هو الصيانة ! طلبت الاستزادة فقال : أضرب لك مثالا طازجا، فقد شعرت الأسبوع الماضي بتقطيع ورجفة في أداء الماكينة، فتوجهت لمكان يوجد فيه ميكانيكي سيارات، وأخبرته بالمشكلة، فطلب مني تغيير البَلكّات، وعندما أخبرته أن البلكات الموجودة ليست قديمة، أصر على تغييرها، مؤكدا أن السوق يعج بالبلكات غير الأصلية، وأنني ربما استعملت النوع الفالصو، وأن الحل هو تركيب بلكّات أصلية! وواصل الصديق : أعطيت الرجل قيمة البلكات (الأصلية)، ومعها قيمة أجرة اليد، وكان المبلغ في حدود خمسين جنيها، فقام بجلب المطلوب، واستبدال البلكات القديمة، ووضع الجديدة (الأصلية) .. مكانها !! (وماذا حدث ؟) .. سألته. لا شيء، دارت الماكينة .. لكن الرجفة استمرت، لتبتلع السيارة الخمسين جنيها، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت !! وماذا فعلت ؟ احتار الميكانيكي قليلا، ثم قال بسرعة إنه كان يشك في المصفاة، لكنه فضل أن (يبدأ) باحتمال البلكات، والآن هو واثق أن المشكلة في المصفاة!! ثم ؟ طلب مني شراء بعض البخاخات أولا، ثم بدأ في نفخ محتوياتها في الماكينة، مع رفع الضغط على البنزين لبضع دقائق، وبعدها لاحظ أن الرجفة مستمرة، فقرر بشكل قاطع تغيير المصفاة، وطبعا رضخت له، ودفعت ثمنها المشتعل، مثلما دفعت من قبل ثمن البلكات، وثمن البخاخات، واستمرت الكوميديا السوداء .. وتواصلت الرجفة، ليكتشف ميكانيكي آخر كان قريبا من المكان، أن المشكلة تكمن في سلك تالف من أسلاك البلكات، فاشتريته مرغما، لتنتهي المأساة بعد أن أفرغت جيبي من يومية أسبوع كامل !! انتهى كلام صديقي، وقد علمت أمس أنه باع سيارته غير آسف !! احدى مشكلات السودان، افتقاره الشديد للعمالة الفنية الوسيطة الماهرة. فالناس إما مهندسون بشهادات عالية يقبعون في المكاتب، وإما عمالة متدنية المهارة تتعلم على حساب جيوب الناس، ولا تهضم ما تعلمته، لمحدودية تأهيلها الفني. المشكلة لها وجوهها المتعددة، في مجالات الكهرباء، والإلكترونيات، والسباكة، والميكانيكا، والسمكرة، والكثير الكثير من أوجه العمل الأخرى. صحيح أن هناك فئات مقتدرة مهنيا، ولها زبائنها، ومعروفة بإتقانها لعملها، لكن الغالبية الساحقة للأسف خارج الشبكة، وتسيء للمهن التي تعمل بها، وتعرض الناس للخسائر والمخاطر . رحمك الله .. أيها التعليم الفني الوسيط في السودان !