حينما كتبت بإحساس المسؤولية والغبن ذات مرة، قصة الدواء البديل، تصدّرت لائحة المطلوبين عند (بعض) الصيادلة، وطفقوا يكتبون عن كيف أن هذه دائرة لا يجب أن أدنسها بفمي النتن، وكيف أن الحديث عن الدواء والصيادلة يجب أن أتوضأ له قبل ذلك مرتين ! فهم ملائكة الراحة من آلالم المظلومين وهم من لا يجدون الصيت ولا الغنى في ما يخص تفانيهم الدؤوب لخدمة المواطن الجاحد. ثم يجتمع السيد وزير الدولة بوزارة الصحة الأتحادية الأسبوع الماضي بالمجلس الاتحادي للأدوية والسموم ويدور الحديث المستفيض عن الأدوية المغشوشة وخطر تداولها بين الناس، واستمعنا للخبر بذات شفافية إعلانه، ذلك عبر وسائل الوزارة الإعلامية، ولتطمئن قليلاً نفس المواطن بأن السادة بمجلس الدواء والسموم حريصون عليهم، وأن الوزارة رؤوفة بهم لا تدس شيئاً تحت (كاونتر) أضابيرها الرئيسية تحت دعاوي أن العمل الصيدلاني في السودان لا تشوبه شائبة، وأن أوراق كل صيدلية وصيدلي بيضاء تسر الناظرين.. وملف الدواء مغلق تماماً تحت عدة بنود، لعلّ أهمها أنه شأن صيدلي ويجب عليك أن تحصل على رخصة الصيدلة أو ما جاورها للحديث عنه، وإذا تجرأ أحد بالكلام عن ما يحدث فيه تشمّرت سواعد العديد منهم لنعتك بأرخص التعابير وأسوأ الصفات لتنكمش وتموء كالقطط الصغيرة مبتعداً عن مكان لا يمكنك الوصول إليه في كل الأحوال والكتابات. ووزارة الصحة الاتحادية تفتح ذاك الملف وتنفتح بمساماتها العاقلة على هواء الإعلام الطبيعي ليعرف الصيادلة أولاً كيفية إدراة الدواء والتعامل معه إن كان مغشوشاً أو بديلاً أو غير موجود! وليعرف الناس ثانياً كيف يعرفون الدواء المغشوش وكيف يحتاطون من صيدليات السموم وكيف يبلّغون عنها! فليس هناك مطلق خير ليعمّم على مهنة أو أفراد أو بلاد، هناك الشر والنفوس التي تصغر ضمائرها وتختفي تحت إغراء نار الكسب السريع والفاحش ولو عبر بيع السم للناس على أنه دواء شافٍ وبيع المخدر على أنه بضاعة السعادة ووهم الحلم بصحة أفضل. وأفضل ما في التعاون الذي يسعى له المجلس الاتحادي للأدوية والسموم مع كافة القطاعات العاملة في مجال الدواء إن كان بالتصنيع أو الاستيراد أو حتى التعاطي، إنما يكون من أجل الصحة فقط في النفس البشرية والحيوانية - بالنسبة للأدوية البيطرية كذلك - فمجرد انتشار نوع معين من دواء مغشوش وغير مطابق للمواصفات الصيدلانية وقانون الأدوية والسموم، يكون سبباً مباشراً في إضعاف اقتصاد الدولة! وليس هذا شطط حديث إنما حقيقة لا يمكن الاستهانة بها، فكم سيكلف الدولة من صرف ميزانيات لجمع وسحب الدواء المغشوش من سوق الأدوية؟ كم ستكلفها إبادته؟ كم سيكلفها تغطية عجز وجوده للتداول بين المواطنين أو حيواناتهم؟ وما تبقى من مال لن يصلح لتغطية الحوجة الماسة لأدوية الأمراض ذات العبء الصحي داخل السودان كما حدث قبل فترة قصيرة، فقد كان هناك نقص حاد في الجرعات العلاجية لمرضى السرطان وغير متوفرة في الأساس في معظم مستشفيات الدولة التي تمنحها مجاناً للمرضى.. مما خلق نوعاً من الوضع النفسي المتأزم لأهل المرضى العاجزين عن توفيره من خارجها، والمرضى أنفسهم العاجزين عن الحركة من دونه، ناهيك عن أمراض الكلى والدم والقلب.. الخ. إن الحديث عن الصحة بكافة قطاعاتها يتطلب قدراً كبيراً من الانفتاح والصراحة تجاه المشكلات وطرائق الحلول التي تستصحب بالضرورة الأضواء الإعلامية ليس من أجل الشهرة أو الحصول على دعاية إعلامية للشخصية إن كان طبيباً أو صيدلانياً أو وزيراً، أو للعمل الصحي إن كان افتتاح مشفى أو مصنع دواء، إنما لتعريف الناس بما يهمهم وينفعهم، وليس هناك في تقديري وتقدير الكثيرين ما هو أهمّ من الصحة وتوفر الدواء الصحيح والأصلي. ويُحمد لوزارة الصحة صدرها الواسع وأضابيرها المفتوحة تمام الصراحة على تساؤلاتنا وشكوكنا بل وحتى اتهاماتنا في كل ما يتعلق بأمر الصحة في السودان، وتركها كذلك حبل الخبر على الغارب، فإما عقلناه ليقبع مختبئاً حتى لا يثير فزع الناس بالاتجاه المعاكس، أو أطلقناه لتوعيتهم بالاتجاه الصحيح لخط سير الحياة الصحية. والصحة هي دائرة الثقة التي تتكامل وتكون بالصراحة، فالطبيب يجب عليه مصارحة مريضه - وذويه - بأصل مرضه؛ والصيدلي يجب عليه مصارحة مريضه بأصل دوائه الآمن، والمواطن يجب عليه مصارحة نفسه بما له وما عليه في ما يتعلق بصرف الظن واللوم على الطبيب ومستشفى الدولة المجاني والصيدلية التي لم توفر الدواء الرخيص. ويجب أن يثق كل هؤلاء بجانب السلطات الرقابية - فدورها مهم في ضبط حالات الغش ومكافحة تهريب هذه الأدوية إلى داخل البلاد - في بعضهم، كي تغلق دائرة الثقة على الصحة ولا نعود في حاجة إلى ذرف الدموع ونفث التهم والصفات والخطايا. إن مثل هذه الأنباء والاجتماعات والقرارات تمثل خطوة ثابتة بيقين راسخ تجاه صلاح حال الدواء الذي يمثل دعامة أساسية في بناء الصحة، لكن ينبغي علينا كمواطنين أن نعرف كذلك أن هذه الخطوة يمكن أن تتراجع ألف مرة للوراء وتعيدنا إلى دائرة الخطر بدلا عن الثقة، إذا تعاملنا بالتعاون مع (بعض) الصيدليات بمبدأ (كان ما غشوك أو دسوك أو سكتوك ما بداووك!).