ليست هناك علاقة تذكر بين دولة كوش ذات الإسهام المعقول في الحضارة الإنسانية التي أنشأها قدماء السودانيين في العصور الخوالي وبين الحركة الشعبية خاصة بعد أن أزالت القناع وقدمت نفسها حركة انفصالية بحتة تستهدف اقتطاع الجنوب والانكفاء عليه والاكتفاء المؤقت به وفصله من السودان. لقد كان قدماء السودانيين الذين أقاموا دولة كوش في فجر التاريخ نوبيين وأقاموها في الشمال وما زال أحفادهم يقيمون على نفس الأرض وبنفس الملامح والقسمات والتركيب النفسي واللغة التي كانت مكتوبة ثم أصبحت (رطانة). إن مغالطات الحركة الشعبية في حقائق التاريخ السوداني ووقائعه، القديم منها والحديث، أكثر من أن تُحصى، وهي تتعمد هذه المغالطات خدمة لبرنامجيها العاجل والآجل، وقد استغلت بذكاء ادعاءاتنا الغبية الباطلة بأن تاريخ السودان لم يبدأ إلا بعد دخول العرب إليه، فقد كان السودان موجوداً وكانت به حضارة. وكانت لديه دولة منذ فجر التاريخ قبل الإسلام وقبل المسيحية وقبل أن يفكر العرب في الخروج من جزيرتهم. ولما جاءوا فإنهم لم يجدوا ربعاً خالياً ولا أرضاً يباباً وإنما وجدوا شعباً ووجدوا دولة ووجدوا حضارة ثم سرعان ما انصهروا في الشعب المقيم، وألفوا شعباً واحداً أو أنه قابل الى أن يكون شعباً واحداً خاصة في السودان الشمالي. وكانت للجنوب خصوصيته ذلك صحيح لكنه في نفس الوقت لو تُرك لشأنه فإنه كان يملك قابلية الاشتراك مع الشمال في تكوين شعب واحد اسمه الشعب السوداني. وأكثر من ذلك فإن بعض الجنوبيين الأفذاذ لم يتوقفوا عند محطة وحدة السودان من نمولي إلى حلفا ومن الجنينة إلى بورتسودان وإنما ذهبوا أبعد من ذلك طامحين وهاتفين بوحدة وادي النيل من نمولي إلى الإسكندرية وكان من هؤلاء الأفذاذ الضابطان الشابان علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ. ولقد غالطت الحركة الشعبية عندما ادعت انتسابها لدولة كوش وغالطت أيضاً عندما ظنت أن علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ من رموزها. ونعم كانا جنوبيين لكنهما لم يكونا انفصاليين، فقد كانا وحدويين ولم تقتصر وحدويتهما على السودان لكنها شملت الوادي الخالد كله من أقصى شماله في شاطئ البحر الأبيض المتوسط الى أقصى جنوبه في شواطئ بحيرة فيكتوريا. وما أروع علي عبداللطيف وما أشمخ عبدالفضيل الماظ، وما أعمق جراحاتهما بخذلان الحركة الشعبية لقضية الوحدة وانكفائها على الجنوب، لكننا في الشمال لن نخذل أبداً الضابطين البطلين الوحدويين الجنوبيين علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ وذلك بالعمل لأجل الوحدة والتشبث بها طوال العمر. وفي كل الأحوال يبقى مكانهما محفوظاً فارسين نبيلين في مقدمة آباء الحركة الوطنية التي أنجبت في ما بعد مؤتمر الخريجين العظيم الذي قاد الوطن إلى إنجازاته الكبرى.. الجلاء والسودنة والاستقلال.