{ أعلن دائماً عن انحيازي التام لمشاريع ترقية الذوق العام والمحاولات الحثيثة لتطوير ونظافة العاصمة، وأحلم «بخرطوم» متأنقة، رحبة، برحيق الأزاهير، وبريق النظافة، وأحلم أكثر بأسواق منظمة متناسقة، ومناطق سياحية متاحة تتكئ على النيل، ومستشفيات يضوع منها عطر الصحة والمعقمات، ومدارس حكومية رفيعة المستوى معنى ومبنى بمعلمين يشبهون كثيراً أولئك الذين عايشناهم يوماً ويمضون الآن نحو الانقراض، أحلم بملاعب خضراء في كل الأحياء ولكل الأطفال ليجنبونا مغبة الترحال والنفقات سعياً وراء الحصول على بعض الترفيه في حديقة جرداء بأسعار منهكة تسمى مجازاً متنزّهات سياحية لنتحول إلى سياح في بلادنا ولا نعامل معاملة السياح إلا في ما يتعلق بالأسعار، فما هو السر وراء عبارة «سياحي» التي تطلق على أي مطعم أو متنزّه فقط من باب الاستثمار؟! { لقد جلست يوماً إلى الأخ الوالي «الخضر» ولمست عن قرب حجم الشفافية والحماس والصدق الذي يمتلئ به الرجل، وأحلامه العريضة ومشاريعه الأنيقة، ورغبته الأكيدة في إحداث تغيير جذري وإيجابي في الخرطوم عموماً وقد ازداد إعجابي بوقاره وحكمته ووضوحه وهو يرجونا أن نتعاون جميعاً من أجل إنجاز الأفضل، وها نحن نتابع ما يقوم به هو وأركان حربه من أشياء إيجابية هنا وهناك، غير أن المؤسف في الأمر أن بعض التفاصيل الشائهة تفسد جمال الصورة، وكنت قد سمعت «الخضر» بأذنيّ هاتين وهو يردد على مسامعنا أن «الكشات» الجائرة ليست من سياسة الولاية، وأن أي مشهد «لعسكري» يطارد «ست شاي» هو قطعاً لا علاقة له بتوجيهات حكومته، وقد صدقنا الرجل، فلا يبدو أنه في حاجة لمثل هذه الممارسات لتحقيق غاياته السامية، ولكن الشاهد في الأمر أن حملات «الكشات» مستمرة وبذات الصورة المزرية التي تجرح كرامة الإنسان وتهين إنسانيته وتكسبه المزيد من الحنق والبغضاء تجاه المسؤولين دون أن يحاول أن يحدد من المسؤول. { وقد لاحظنا جميعاً حملات التكسير والإزالة الأخيرة للعديد من الأكشاك والمظلات التي قامت بصورة عشوائية في الأسواق و«المحطات» الرئيسية لأغراض تجارية باركتها كل المحليات ولم يكن يعنيها سوى التفنن في فرض وابتكار الجبايات دون مراعاة لمظهر عام أو تسوية طريق أو نظافة أو غيره فسياسة المحليات معلومة للجميع: «جبايات، جبايات، جبايات»، ومدخلات معلومة ومخرجات غير ملحوظة، ورأيي في سياسات المحليات لم ولن يتغير حتى إشعار آخر، فأنا أرى كيف يعملون من داخل بيتي المتواضع الذي يطرقون بابه لتحصيل رسوم عربة النفايات التي كدنا ننسى شكلها ولا نراها إطلاقاً ونقوم بجمع نفاياتنا وإيداعها مكاناً قصياً بأنفسنا لنسهم بدورنا في تحويل هذا المكان القصي إلى «كوشة» داخل الحي، ولكن ما باليد حيلة، وهذا ما يعرف بالتسلسل السلبي للأحداث. {عموماً لا بأس من إزالة ما تراه الحكومة غير ملائم للمظهر العام أو مصلحة المواطن، ولكن كنا نرجو أن تتم هذه الإزالة بشيء من الترتيب والإنسانية، فالأنقاض تبقى زمناً متكدسة على جانب الطريق، وهذه الإزالة تتم بقسوة وغلظة لا تمت للدين ولا لسياسة حكومة الولاية بصلة، ورجال المحليات يمارسون سلطاتهم وكأنهم جلادون، وهذا المواطن مجرم أثيم، والمواطن المغلوب على أمره عاجز مستكين يخشى العقاب وإلصاق التهم، فهل وضعتم في الحسبان أن معظم هؤلاء الغلابى كانوا يعتاشون هم وأسرهم الممتدة من هذه المهن البسيطة والتجارات الصغيرة؟! وما معنى أن يطارد «عسكري» ست شاي أو «بتاع طعمية» أو صاحب «فترينة باسطة صغيرة» كما رأيتهم يفعلون بأم عيني في سوق «اللفة» فيدلقون الشاي ويبعثرون الطعمية والباسطة وهي من نعم الله والكل في وجوم؟ حتى أنا شعرت بالعجز وبخرافة السلطة الرابعة التي لا تستطيع مجابهة الحدث في وقته لأن هذا «العسكري» أصلاً لا يحترم أحداً ولا يقيم مهنة ولا يمت للإنسانية بصلة وكأن سلطته ستدوم عليه متناسياً كيف تدور الدوائر. { فيا عزيزنا «الوالي»، أحسب ألا علم لك بما يحدث، وأن توجيهاتكم الموقرة لم تشتمل على مثل هذه الممارسات التي تتم قطعاً بعلم المحليات، وأنا على ثقة من تقديرك لصوتنا الواهن فلا نملك سوى أن نكتب لك مناشدين بحفظ ماء وجوهنا وكرامتنا حتى لا تتسع دائرة الشقاق وأنت أحرص الناس على أن تتكاتف كل الجهود في وفاق من أجل عاصمة حضارية.. ودمت. تلويح: عاجل للأخ «الخضر» وعشمنا فيه أخضر..