إلى المستوى الذي لا يصبح فيه أداء شعيرة الحج متعباً؛ يبرر رجالات الدول والحكومات إجراءات تسهيل أمره للناس ليتفرغوا للعبادة وأداء المناسك دون هم وتفكير في الإقامة والجوازات والخ.. وآخر ما توصلت إليه الأجهزة الرسمية السودانية بشكل خاص هي بدعة الحج السياحي، وهو حج لا يرهق فيه الحاج أبداً وتصبح كل أموره فيه ميسرة ومرتبة وما عليه إلا النوم والصحيان ميقات الصلاة ثم العودة إلى النوم مرة أخرى، وهكذا حتى ميعاد الحج ورهق شعائره التي فقط هو من يستطيع القيام بدون بديل! البدائل الكثيرة التي أصبحت متاحة ومتيسرة للحجيج السوداني، بدءاً من التفويج والاهتمام بالحجيج بنظام الأمير أو القائد حتى خيارات حجز الفنادق و(اللوكوندات) القريبة من الحرم، هي بدائل تتيح للحاج فرصة التفكير فيها كخيارات بغض النظر عن القيمة المدفوعة أو المضافة ومتغيرة بين كل بديل وآخر، ثمّ اختيار الأنسب والأفضل كذلك بحسب شيك الضمان.. لممارسة حجّه بشكل مبرور ليحصل على قيمة السعي المشكور ثم، بإذن الله، الذنب المغفور. وغفر الله للمادح السناري الشفيف الصوفي المتأدب ذي ملكة الصوت العجيبة (حاج الماحي)، فقد قال ذات زمان حج كان الناس يشقون فيه لزيادة الأجر باستصعاب الرحلة لبلوغ حلاوتها الروحية وتجهيز النفس مبدئياً بالرحلة البرية إلى الرحلة الروحية العميقة والكبيرة، قال أليس صحيحاً أن أقول مدح قائلاً: (ياربي سائلك تقبل لي مطلب تديني جملاً كبير وأصهب مو الدون قصير وماهو المشقلب أصهب بشاري طايع مؤدب صدرا مفجج في شوفته ترغب سرجا سناري محكوم مذهب والفروة مرعز اتنيها وأركب فوقه ان رفعت من حينه ترغب قت يا سلامة، أقبل وقبقب تسمع مشيه رجليه طب طب الماحي فوقه بي مدحه يطرب بي زمزميته والزاد محقّب ان ردت تأكل وان ردت تشرب قصدي ومناي في أم سور وكوكب القبة الخضرا ونسامها هبهب نوصل نزوده وفي شفاعته نكتب) وما كتب منذ زمان مادح الرسول صلوات الله عليه وسلامه (الإمام شرف الدين ابي عبد الله البويصري): حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه أو يرجع الجار منه غير محترم ومنذ الزمت أفكاري مدائحه وجدته لخلاصي خير ملتزم وحتى أعجوبة البلاغة وسر المديح الأخير في السودان (الراحل الشيخ عبد الرحيم محمد وقيع الله البرعي) ورائعته (الطايرة سودانية لرسولنا قوماك بينا) عن هذه الرحلة العظيمة في ما يتحصل عليه الأنسان من أجر، ثم من فائدة إنسانية بالتواصل والتعارف على شعوب وقبائل توحدت على جهة واحدة وكلمة واحدة وثوب واحد ولون واحد، لا يمكن أن توازيها على المستوى الاقتصادي أو المالي كافة الأوراق والسندات المالية مهما بلغت أصفارها وخاناتها المليونية، لكن ما يحزن أنه وككثير من الأشياء الدينية والإنسانية في هذا الزمان بشكل خاص السوداني تحولت من شعيرة دينية إلى طقس اجتماعي لا يمثل في كافة أوجهه ملمحاً من الشعيرة ولو من قريب جداً، وأعتقد أن خير مثال هو عيد الأضحية المبارك والمتوافق مع الحج كشعيرة وفرض؛ فرغم كل الارتفاعات الجنونية لأسعار الماشية منذ ما يقارب الثلاث سنوات وحتى الآن دون أن ترتفع وتسمو بمستوى الحدث الديني الرفيع، أو أن يتنازل الناس عنها بما حثنا عليه ديننا الإسلامي الكريم، مع ذلك وكل عام يتحول العيد إلى فرصة للخلافات الأسرية والانهيارات الأقتصادية، لمجرد أن الناس تناست قيمته الدينية والتربوية والإنسانية حتى تحول إلى طقس اجتماعي ومظهر طبقي يبيّن مقدرة الأسرة على تقديم قربانها للناس لضمان ولائهم تجاهها بقية العام القادم! وبذات الفكرة تحول الحج عند الكثيرين إلى مجرد بعثة عمل لكن ديني! أو مظهر اجتماعي يبين مقدرتك المالية على أدائه أكثر من مقدرتك الجسدية أو الروحية، والمؤسف حتى على المستوى الأعلى من جهات رسمية ووزارات ووكالات تهتم قبل أوانه بتقديم كشوفات المستحقين له قانونياً ! وإعلانات السفريات والحج المضمون والآمن والمريح دون تعريف الحجيج بأكثر التفاصيل التي يجب معرفتها، التي لا يحصلون عليها إلا هناك في البقاع الشريفة. إن الشرف الكبير للشخص المسلم والقادر والمالك لقوت عامه بقيامه برحلة إلى أطهر البقاع في الأرض هو شرف نراه في أشعة الأنوار التي تستقر في وجوه العائدين ونتبرك فيه بماء زمزم الشافي والراوي لظمأ النفوس، وب (جِير) البيوت والدعوات المكشوفة بالكتابة على الحيطان ورسائل الهواتف، وبالتأكيد في أمنيات قريبة من القلب أن يعدنا الزمان بتلك الرحلة بكامل صعوبتها وحلاوتها ونكون نحن كما قال (حاج الماحي): (ياحليلن مكان أتأدبوا وتاقوا شافوا الذرى يشلع فوقو براقو)