{ قد لا يكون من الحكمة أن أفصح عن عمري تحديداً، ولكني أعترف أنني كبيرة بالقدر الكافي الذي أهلني لأكون أماً ناضجة، ورغم ذلك أعترف بكل فخر بأنني ما زلت أدور في كنف أمي، وما زلت لا أستطيب إلا طعامها، ولا أحن إلا لحضنها الدافئ، ولا أبادر لأي أمر دون مشورتها، ولا أبدأ يومي إلا بلقائها، ولا تطربني إلا كلمة تعرب عن رضاها عني. ولا أذكر أنني طوال سنوات عمري قد افترقت عنها طويلاً لأي سبب من الأسباب، أو ذهبت عنها بعيداً مهما كانت الظروف، قبل أن ينعم الله عليها بفضله في أن تيمم وجهها هذا العام شطر بيته الحرام، لتؤدي فريضة الحج في أقسى امتحان لنا بغيابها وافتقادها وضياعنا دونها، وعزاؤنا الوحيد أنها تنعم بصحبة الأخيار في حضرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) محققة بذلك أمنية عزيزة على قلبها ظلت تترقبها وتتوق إليها زمناً حتى منّ الله عليها بالقبول. { والحديث عن أمي طويل وشائك، لا تكفيه كل الكلمات، وهي المرأة الاستثنائية التي يشهد لها الجميع بالتميز والطيبة والإتقان والأيادي البيضاء، فإذا كانت شهادتي فيها مجروحة؛ فشهادات غيري لا تحصى، ولا أحسب أن اثنين قد يختلفان على قدر هذه المرأة العصامية الخارقة التي أكرمني الله بأن خصني بأمومتها وشرفني بها، هي التي كانت وما تزال وأرجو أن تظل طويلاً؛ عنواناً لي ولإخوتي وملاذاً آمناً، ومعلماً رشيداً، وحالة كونية خاصة لا تتكرر. { أمي التي توالت عليها محن المرض وصروف الحياة والحظ العاثر والحمد لله، ورغم ذلك بقيت على حالها، صابرة، مثابرة، محتسبة، لم تستسلم أو تضعف ولا فارقت الابتسامة ثغرها، ولا توانت عن كرمها الفياض وروحها السمحة وبشاشتها، وكنت كثيراً ما أعقد المقارنات بين حالي وحالها، وأتساءل عن كيفية ردود أفعالي إذا كان الله قد ابتلاني بقدر ما ابتلاها، فتجدني أطرد الفكرة سريعاً عن رأسي حتى لا يصيبني غضب الله إذا ما واجهت نفسي بحقيقة عجزي عن إمكانية التعايش مع ما هي عليه، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاها به، وجعله لها كفارة وأجراً عميماً بإذنه وفضله ورحمته. { وحكاية أمي مع المرض طويلة، وبفصول متجددة، فكل ما يخطر ببالكم منه كان لها فيه نصيب، غير أنها وحتى الآن قادرة على تصريف شؤون حياتنا جميعاً، وتشملنا برعايتها وحنانها، بل وما تزال امرأة منتجة تتحمل أعباء معيشتها وتعيننا نحن أيضاً على حياتنا من خلف (ماكينة الخياطة) العزيزة التي بنت مستقبلنا منذ نعومة أظفارنا حتى حققنا ما نحن عليه من نجاح والحمد لله. وأنا على وجه الخصوص أدين بالكثير لأمي العزيزة، ولماكينتها الغالية، التي نحسبها فرداً منا من فرط اعتيادنا وتآلفنا معها وشعورنا بالامتنان تجاهها، تلك «الماكينة» التي لبسنا جميعاً منها، واكتسينا حللاً قشيبة لا مثيل لها في كل البضائع الصينية التي زحمت أسواقنا، وحتى أبنائي الأعزاء ما يزالون ينعمون بخراجها رغم هذه السنوات الطويلة التي أعانتنا فيها من قبل على الدراسة والحياة وما زالت. { ولأمي طاقة عجيبة على العطاء واحتمال الألم والتضحية، تتمتع بشخصية قوية دون قسوة، ولها بالغ الأثر على نفوس الجميع بالحكمة والكلمة الطيبة دون سطوة أو جبروت، علاقتها ودودة مع كل من يعرفها ومن لا يعرفها، وصداقتها تتمدد لتشمل حتى الأطباء المعالجين وزملاءنا في الدراسة والعمل وأهل الفكر والثقافة، فهي مثقفة بدرجة كبيرة، تلك الثقافة الشاملة القديمة، ولكم أن تعلموا أنها توحي لي بالعديد من الأفكار التي أسوقها لكم وتنتقدني دائماً بحس عالٍ وتلم بكل التفاصيل الحياتية وتقرأ الصحف بعناية أكثر منا، ثم تجد الوقت بعد كل ذلك لتصنع لنا أطيب الأطمعة والمأكولات والحلويات بذلك النفس اللذيذ الطاعم الذي لم أجده في كل المطاعم والبوفيهات ولن أجده. { إنها ببساطة «أمي»، تلك المرأة التي أدبتني وأهدتني العدد الأول من مجلة «ماجد» حين كل عمري خمس سنوات، ثم عرفتني على الكتاب العرب وصحبتني في جولات عدة على معارض الكتاب والمتاحف في سابقة لم أستطع أن أوفرها لأبنائي حتى الآن، ففتحت لي بذلك المجال لأكتسب لغتي الخاصة وأضع قدمي على درب الإعلام الذي أوصلني إليكم وحدد مساري. هي أمي.. أمامي ومن خلفي وإلى جانبي، تواصل رسالتها العظيمة مع أبنائي وتشعرني في غيابها باليتم، وأرجو أن يطيل الله في عمرها ويعيدها إلينا سالمة غانمة ببركة بيته الحرام ودعائكم الطيب. فادعوا لها بظهر الغيب، وأحبوها فهي تستحق حبكم؛ لأنها أحبتكم مثلي وأعانتني على رضاكم وأوصتني بكم خيراً، وعسى الله أن يعدنا جميعاً بزيارة بيته الحرام في العام المقبل حتى وإن كنت سأكابد فراق أمي مجدداً. { تلويح: «يمة الحنينة الشوق غلب»!