أطروحة «الجنسية المزدوجة» أصبحت بمثابة الكرت الأخير الذي يلعب به ما يعرف «بقطاع الشمال» بالحركة الشعبية، هذا القطاع المفجوع الذي يشاهد أحلامه وأشواقه تتساقط أمامه كتساقط أوراق الخريف، ولا يقوى على فعل شيء غير العزف على وتر «ازدواجية المعايير» لترسيم المرحلة السودانية المقبلة. و«الجنسية المزدوجة» هي «خطة» لا تخلو من عبقرية لاستمرار تكريس الوضع الحالي، على أن يكون الجنوب خالصاً لحكومة الجيش الشعبي لتحرير السودان تفعل فيه ما تريد، ثم في المقابل تكون هناك حركة شعبية في الشمال تتشكل من بعض «بقايا اليسار» وأكثر من مليون جنوبي ممن يحملون «الجنسية المزدوجة» التي تؤهلهم لأن يصبحوا مواطنين من «الدرجة الأولى الممتازة» في الشمال. على أن يذهب الجنوبيون إلى صناديق الاستفتاء لانتخاب «خيار الانفصال» لصناعة دولة جنوبية خالصة، ثم يتفرغ بعضهم لصناعة «حركة شعبية» في الشمال وفق استحقاقات «الجنسية المزدوجة»، لتكون (شوكة حوت) في حلق الشمال تعطل مسيرته التنموية وتعرقل خططه الإستراتيجية وتعيد السيد عرمان من جديد «لواجهة الأحداث»، بمعنى آخر أن يحكم السيد باقان الجنوب وينتدب السيد عرمان لحكم الشمال! ومن يهن يسهل الهوان عليه، فالامتياز الذي وجدته الحركة الشعبية لتحرير السودان تحت ظل اتفاقية السلام؛ جعلها تمتلك الجرأة «لطلب المستحيل»، فقد كانت الحركة الشعبية تحكم الجنوب تماماً وتحكم نصف الشمال، والصحيح أن نقول إنها «تعرقل النصف الآخر» الذي هو الشمال، فهي لم تشارك في الحكم بصورة جادة، بل قد سعت في معظم الوقت لجعل «الحصان خلف العربة»، أشهر وزرائها السيد باقان أموم وزير مجلس الوزراء، قد صرح أمام الملأ بأن «دولة السودان فاسدة وفاشلة»، وأن السيد سلفاكير النائب الأول يجلس «بعض الوقت» بالقصر الجمهوري «لرعاية مصالح دولة الجنوب»، وإن هو غادر السودان لواشنطن أو أوغندا فذلك لأمر يخص دولته الجنوبية، لم يفعل السيد سلفاكير شيئاً ذا بال خلال السنوات الخمس من عمر الشراكة لصالح دولة السودان، فكان الرجل مجرد ضيف كبير وكريم بالشمال، فلن يستطيع أحد أن يلغي ذاكرة الشعب السوداني أو أن يجعل عقولنا تذهب في إجازة مفتوحة! وطلب «الجنسية المزدوجة» الذي تسعى الحركة من ورائه لتكريس ذات الوضع «حل الدولتين» الذي تطرحه واشنطن للفلسطينيين، بتقديري أن هكذا طلب لا تصلح له إجابة مهذبة، بل تصلح له إجابة طه البطحاني (دحين يا شيخ العرب جرّبت لحسة كوعك)؟! وهذا من المستحيل، وأتصور مجرد طرح مثل هذا الطلب هو «إهانة واستخفاف» بهذا الشمال الذي أعطى وما استبقى وصبر وصابر. وإذا كان السيد أتيم قرنق الذي يتفسح ويتمدد وينتشر في كل فضائياتنا، هو من يكرر ادعاء أن الجنوبيين «مواطنون من الدرجة الثانية» لهذا سيسعون إلى تحرير أنفسهم عبر صناديق الاستفتاء، فلئن كان ذلك كذلك؛ فلماذا يطلب المهمشون «وسكان الدرجة الثالثة» جنسية دولة لا تدعهم ليكونوا مواطنين من الدرجة الأولى! ليعلم الإخوة الجنوبيون المحترمون، وليعلم الذين من خلفهم، إذا ما ذهبوا طوعاً إلى صناديق الاستفتاء واختاروا الانفصال وتشكيل دولتهم المستقلة؛ فسأضمن لهم ساعتها بأنهم سيتمتعون بجنسية دولتهم الوليدة، ولكن في المقابل سيفقدون مباشرة جنسية الدولة التي لم ينتخبوها في الاستفتاء، وهذا لا يحتاج لدرس عصر! ثم ليعلم قطاع الشمال، أن انتخاب الانفصال سيكون بمثابة «قطع عنقه» في الشمال، بمعنى أن هذا القطاع سيصبح مباشرة «حزباً عميلاً» لدولة رفضت التعايش مع الشمال، والخيارات يومئذ مفتوحة أمام قياداته، إما أن يلحقوا بدولة الجنوب ليصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية الممتازة، أو أن يلحقوا بأولادهم في المهاجر، أو أن يعودوا لحزبهم القديم، الحزب الشيوعي السوداني، وأخشى ألا يقبل توبتهم! مخرج.. (أنا لو رضيت بالهم.. ما برضى بي همي).. والسلام.