مناورة ومراوغة على ما قد يكون، حمّلت الحركة الشعبية نفسها وزر فشل التسجيل للاستفتاء، قبل أن يتوغل التسجيل قليلاً في أيامه المبتدئة، وشاهدنا في الأخبار ما قيل عن الأمور الإرهابية والتخويف لمن تسوِّل له نفسه مجرد التفكير في الذهاب إلى الأماكن المخصصة للتسجيل، أو مجرّد المرور أمامها! وسمعنا شفاهة وبشكل مباشر عن الأمور والأحاديث المتفرقة والوعيد المستتر والمباشر الذي قيل إن الحركة الشعبية متمثلةً في أفراد ينتمون إلى جيشها وأمنها قد قاموا به! وبذات الطريق تمشي الأممالمتحدة متمثلةً في مسؤولها المفوّض عن ملف الاستفتاء وتطلق التصريح العلني عن أن هناك خروقات من قبل الحركة الشعبية في ما يتعلق بأمور التسجيل، الخطوة الأولى في درب إجراء الاستفتاء. وتسكت الحركة وناطقوها الرسميون عن التبرير المباشر أو حتى رد الاتهام عن نفسها، وتخاطب وكالات الأنباء العالمية فقط - دون المحلية باعتبارها غير محايدة - عن أنه فبركة سياسية وإعلامية من المؤتمر الوطني لإثبات أن الجنوبيين يريدون التسجيل والإفتاء لمصيرهم، لكن الحركة هي من تمنع سير العمليات الطبيعية! والمؤتمر الوطني، باعتباره الشريك الأصيل مع الحركة الشعبية في اتفاقية السلام الشامل، هو من يقوم عبر أعضائه ومنسوبيه بزيارة مواقع التسجيل المتفرقة في أنحاء العاصمة والمتمركزة في أماكن تجمعات الجنوبيين، لتأكيد حسن نواياه كشريك تجاه التسجيل والحصر كإجراء أولي لا يشكل بأية حال من الأحوال فرقاً في التصويت ضد أو مع الانفصال، حيث أن الأغلبية العظمى والقوة الأكبر المعوّل عليها موجودة في الأساس في الجنوب - بجانب المهاجرين طبعاً. وطبعاً كما عهدنا القوى السياسية الأخرى المبعدة من الانتخابات السابقة، وبالتالي مبعدة من المشاركة في الحكم بشكل فاعل وحالياً مقصية من المشاركة في حيثيات الاستفتاء بذات القدر من الفعالية الحرمانية، فهي كقوى تصطاد في عكر المياه الآن وتستنطق صمتها بالتحايل مرة على المؤتمر الوطني، عبر توجيه تهم التزوير والتلفيق إليه، ومرة إلى الحركة الشعبية بتوجيه تهم استخدام القوة والإرهاب، لكن لتمرير أجندتها الخفية المعروفة وصولاً إلى الحكم! وما خفي علينا كمواطني شمال وجنوب، من صريح الحقائق في كل ما يخص أمر الاستفتاء من ألفه إلى يائه، كان أعلى من مدى إدراك القوى والحركة والمؤتمر بذات نفسهم، لذلك لم تستطع فهمه واستيعابه ومن ثمّ التعامل معه بهدوء وفطنة ودهاء الساسة، حتى لا نحس بسريان ليله فينا، ولا نستشعر القلق والغضب المستتر في التصريحات والاتهامات والتقارير. فقرار إعادة النازحين الجنوبيين إذا صحت التسمية إلى قراهم ومدنهم في الجنوب قبل شهر من الآن، دون التوعية المسبقة بذلك، ودون أي التزامات تنمية هنا وهناك، ثمّ التصريحات المطلقة حول ترحيل البقية إذا كانت الفتوى بالانفصال؛ دون أي قوانين ملزمة ومقيّدة لمثل هذه الأحاديث العاطفية، والتهم المتقاذفة ليلاً ونهاراً بين الشريكين، بدون احترام لبنود اتفاقية موقعة ومصادق على بروتوكولاتها، هذا وبالطبع الحرب المسكوت عنها، اللهم إلا من قليل بيان مقتضب وقصير من القوات المسلحة بأنّها دحرت وهزمت جيوش الحركات أجمعين وبيانات ساخرة ومطولة من الحركات في الإذاعات الأجنبية بأنها دحرت وهزمت قواتنا المسلحة أيضاً! كل هذه الأشياء وغيرها تسهم في إرجاع خطوات القادمين إلى التسجيل ألف خطوة إلى الخلف، دون الحاجة إلى مرتزقة أو جماعات (نيقرز)! وتساهم في خلو أطراف الصيوانات المنصوبة لفتح عزاء الوطن أكثر، فأنت غير مسجّل إذاً أنت غير مستفتى وغير مساهم في اختيار نصفك الحلو من نصفهم المرّ! أنت غير مسجل إذاً أنت غير موجود وغير ملزم بالخيار وبالترحيل، فالمسألة بكل فوضاها المبعثرة هذه تحكمها أوراق ثبوتية ومستندات رسمية تثبت سودانيتك أولاً كمواطن وجنوبيتك كمستفتي! كل الإشارات كانت تفضي إلى أن الاستفتاء، كيفما اتفق واختير، هو القشة التي ستقصم ظهرنا أجمعين، ليس بدحض أو تأكيد فكرة الوطن الواحد والادعاءات الجوفاء بالوحدة الجاذبة وأنا سوداني - بدون حقوق وواجبات - إنما لأنه سيساعد في تمكين الخوف في النفوس الخائفة أصلاً، وبزرع نباتات شوكية جديدة في نفوسنا من الآخر أكثر كي لا نتمكن من السلام، بالأحضان كي لا (تغرز) أشواكه في صدرنا وأشواكنا في صدره فنتباعد أكثر كي نسلم! وفي تبرير الأخطاء بأخطاء أكثر فضحاً منها، وفي تمرير الأجندات الذاتية فوق مستوى العامة، وفي زيادة تقوقعنا داخل جلودنا متشبثين بخيوط الروح العزيزة ما دامت هي الباقية في زوال الثروة والسلطة، وفي طأطأة رؤوسنا أكثر كلما تجرأ فاجر أو تاجر أو مغامر برفع أصبعه في عين الوطن وأهله (أوعى!) وسيساعد في تقبلنا فكرة الجلوس دون حراك لساعات طويلة نشاهد مسلسلاً تركياً أو مكسيكياً غير منطقي الأحداث، لكنه مشوّق لدرجة أن تتمّ سرقتنا مننا (بدون أن نجيب خبر)..!